الحديث عن الإعلام ودوره في قيادة المراحل المفصلية في حياة الشعوب والأمم هو حديث يطول فيه السرد، وتتداعى فيه الأمثلة الحيَّة والغابرة عن مدى تأثره وتأثيره على مجريات الأحداث سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، خاصة في ظل تنامي مد العولمة والتطوّر التكنولوجي الذي استطاع رسم إحداثيات جديدة غيرَّت كثيراً من الصورة التقليدية لوسائل الاتصال والإعلام التي كانت سائدة حتى وقت قريبٍ جدًا.. فالسرعة في نقل الحدث وتدعيمه بالصورة الحية وتوفير كل المدخلات الإنتاجية للعملية الإعلامية من أجل زيادة جودة وفعالية هذه الخدمة، إضافة إلى استدعاء كل ما يتعلق بالقضية من معلومات وتفصيلات تعمل على استكمال صورتها لدى المتلقي وتتيح له مجالاً واسعًا للمزيد من الوضوح في الرؤية تجاه القضية، وكل ذلك بتقنيات عالية الجودة وبحضور تكنولوجي باهر، أدى ذلك إلى جعل العالم ليس قرية صغيرة فقط كما كان يقال في بداية الثورة الاتصالية والمعلوماتية في نهايات القرن الماضي.. بل أكَّد اتساع رقعة العالم مع تذويب المسافات واختصار العامل الزمني إلى أدنى مستوى، بحيث إن ما يحدث بأقصى الأرض لا يستغرق من الزمن شيئاً يذكر حتى يكون قد بلغ أدناها. وقد أدى التقدم التكنولوجي مع القدرة على تطويعه واستخدامه بمهارة وتوفير الدعم اللوجستي والكادر البشري المؤهل للقيام بأكثر المهام حيوية في عالمنا المعاصر ألا وهو الصناعة الإعلامية، أدى إلى تحويل وتحوير بعض المؤسسات الإعلامية إلى بؤر شديدة التأثير على كثير من مجريات الأحداث على مستواها المحلي والإقليمي بل والدولي.. وهو مؤشر شديد الخطورة على ما يمكن أن تلعبه مثل هذه المؤسسات من دور في كافة القضايا العالمية. فالكثير من المؤسسات الإعلامية العالمية الآن تمارس دوراً أكبر بكثير من مجرد وسيط إعلامي، حيث انتقلت من خانة اللاعب الناقل والمفسر للحدث إلى خانة اللاعب الصانع للحدث، وهو دور خطير أدى في كثير من الشواهد المعاصرة إلى خلخلة المنظومات القائمة أياً كانت صفتها سواء سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها.. وقدَّم أو ساعد على تقديم بدائل أخرى وفق إحداثيات معينة قد لا تكون غالبًا في صالح من تقدَّم لهم. لقد تحدَّث السيد وزير الإعلام أمام حشد من الصحافيين والإعلاميين عن ضرورة الالتزام بضوابط الانتماء المهني مع الأخذ في الاعتبار بحتمية الانتماء للأفكار والمبادئ التي قد تتقاطع مع التداول المعلوماتي، بمعنى عدم اتخاذ (الحياد) بمفهومه المجرد كأحد أساسيات الشخصية المهنية. فالعالم اليوم لم يعد محايدًا لا في كثير ولا في قليل.. كما أن مفهوم الحياد في حدَّ ذاته قد أصبح مترهلاً كثيراً ولم يعد محدد المعالم بصورة واضحة، بل وأصبح يتداخل مفاهيميًا مع الموضوعية التي هي بلا شك لُب العملية الإعلامية النزيهة.. إن التوجهات الإعلامية التي أصبحت تحكم العالم اليوم وفق مصالح معلومة بالضرورة، قد أدخلت في العملية الإنتاجية للمادة الإعلامية الكثير من الشوائب، مما جعلها تخرج بغير الشكل الذي ينبغي أن تخرج به.. قد لا تكون شائهة لكنها بالضرورة بعيدة كثيراً (أو قليلاً) عن الحقيقة التي يفترض أن تقدَّم بغض النظر عن أي شيء آخر.. إن ما يقدَّم الآن من إعلام بشتى تصنيفاته، يكاد لا يخلو من رائحة الانتماء بل ويبتعد كثيرًا عن الموضوعية ولا نقول الحيادية، مما يضفي عليه ملمحاً مقيتاً ظل يدفع بالكثير من القضايا العالمية إلى اتجاهات ليست في صالحها وتخدم فقط أصحاب المصلحة في إضفاء الملامح الضبابية على كثير من المشاهد والأحداث على طول العالم وعرضه.. وهي إشكالية يتضح مدى تأثيرها إذا ما وضعنا في الحسبان أن العديد من المؤسسات الإعلامية العالمية التي هي بالضرورة ليست محايدة وليست موضوعية، نقول العديد منها قد أصبحت مصادرًا للمعلومة بصفة احترافية، جعلت المؤسسات الإعلامية الأقل انتشاراً تعتمد عليها في مدها بما تحتاجه من معلومات. وهو ما يجعلها تردّد وتتناقل هذه المعلومات دون القدرة على استخراج ما يعلق بها من شوائب أثناء صناعتها في المؤسسات الكبرى، والشواهد على ذلك كثيرة ولا تكاد تحصى.. بل إن العديد من الوسائط الإعلامية حتى داخل السودان تقع في هذا الخطأ الفادح.. فالمتابع للكثير من الإذاعات المحلية والفضائية السودانية، ونقصد بها الإذاعة والتلفزيون في عمومهما، نقول الكثير منها يقع في أخطاء فادحة بنقل الأخبار كما ترد إليهم من مثل تلك المؤسسات العالمية، وذلك دون إعمال مبدأ التنقيح والفحص والتشريح للمعلومة.. حتى إن كانت هذه المعلومة (الشائهة) تؤدي إلى أضرار بالغة بالوطن وأمنه وسلامته، ناهيك عن كل شيء آخر.. وهو أمر لا يزال يتكرّر كثيرًا وتكاد تصادفه كلما أدرت مفتاح الراديو خاصةً إذا استمعت إلى إحدى نشرات بعض الإذاعات العاملة خاصة تلك التي تستخدم الموجات القصيرة، فهي ومن واقع المتابعة أكثرها وقوعًا في مثل هذا الخطأ القاتل. إن أمر الإعلام لهو أمر جد خطير ويحتاج إلى وقفات جادة لتحديد موجهات العمل الإعلامي بما يتوافق مع الأجندة الوطنية للبلاد، ولا نزال نؤكد ضرورة قيام مؤسسة إعلامية إخبارية قوية تعتمد المنهج العلمي البحثي وتكون أولى أولوياتها التعاطي مع الإعلام العالمي بحيث تكون رافدًا مهمًا من روافده في تناول الشأن السوداني.