يوافق يوم السبت القادم الذكرى الثامنة والعشرين بعد المئة لمعركة تحرير الخرطوم على يد قائد الثورة الإمام محمد أحمد المهدي في 26 يناير من العام1885 م، هذا الحدث التاريخي الكبير ففي صبيحة ذلك اليوم (الأغر) حررت الخرطوم على يد جيوش الثورة المهدية بعد حصار دام طويلاً، وتم مقتل غردون باشا واحتلال القصر الجمهوري ودانت السيطرة للإمام محمد أحمد المهدي قائد الثورة المهدية الذي اختار البقعة أم درمان لتكون مقراً للحكم، وصل غردون الخرطوم في الثامن عشر من فبراير 1884م، وكان يعتقد أن كسب الرأي العام يمكن أن يتم بالقضاء على بعض مظاهر الحكم التركي الظالمة. لذا فقد قام بإحراق الدفاتر الضريبية وسياط جباة الضرائب في ميدان عام بالخرطوم. وقبل أن يجني الجنرال غردون ثمار هذا الجهد غير المدرك لقيمة التحول الذي أحدثته المهدية في عقول الناس وقلوبهم، وجعلتهم أقل صبراً على إصلاح يأتي من رجل مسيحي في ظل حكم تركي بغيض، فما كان من المهدي إلا الرد عليه بخطاب مفعمٍ بالقيم الأيديولوجية المخالفة لتوقعات غردون، ولما يعتقد فيه، ويعتز به، إذ إنه رفض قرار تعيينه سلطاناً على كردفان، ودعا غردون إلى الدخول في دين الإسلام، والإيمان بالمهدية، وأرسل له جبة مرقّعة باعتبارها شارةً من شارات ذلك الإيمان، ثم بشّره بسلام روحي مع الذات الإلهية العليا، وعفو سياسي من القيادة المهدية. فلا غرو أن هذه الدعوة كانت جارحة لكبرياء غردون؛ لأنها أخرجته من طوره، وجعلته يقف موقفاً مناهضاً لسياسة الإخلاء، ومتعصباً تجاه الحركة المهدية التي طعنت في كبريائه البريطاني، وسجله الحربي الناصع في الصين، ومنطلقاته العقدية المخالفة لمنطلقات الإمام المهدي وأنصاره. وبهذه المفاصلة الدبلوماسية وصل الطرفان إلى طريق سياسي مسدود، أوقفهما على حافة حرب ضروس، قرعت طبولها حول الخرطوم وما حولها. وكان هذا القرع يأتي مدوياً من معسكرات الأنصار التي أعدت للحرب عدتها، وأحاطت الخرطوم إحاطة السوار بالمعصم، ومارس قائدها الإمام محمد أحمد المهدي أساليب شتى لإضعاف الروح المعنوية في أوساط سكان الخرطوم، بغية سحب البساط من تحت أرجل الجنرال المتغطرس بأقل الخسائر المادية والبشرية كلفة. وفي تلك المرحلة الحرجة من عمر الثورة المهدية عمد الإمام المهدي إلى سياسة الحصار (طويل الأمد)، وعضد ذلك بحرب المنشورات التي أضعفت الروح المعنوية لأهل الخرطوم. وعندما بلغ الحصار ذروته يقال إن المهدي كتب منشوره المشهور إلى أهالي الخرطوم، واستنسخ الكُتَّاب عدداً وافراً منه، وأعطوه لأحد الجواسيس، فوضعه في إناء من صفيح على شكل (إبريق) وعبر به النيل الأبيض سباحة بالليل، ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها، وألقى بالمنشورات في الأزقة والطرقات، وقذف بها في المنازل، ثم عاد أدراجه وهنا يعتقد الدكتورمحمد إبراهيم أبوسليم: «إن ذلك كان أول عهد الخرطوم بالمنشورات المحظورة التي توزع خفية»، والتي استطاعت أن تحقق غايتها المنشودة في تأليب الرأي العام ضد غردون، حيث أنها جعلت بعض علماء الخرطوم أمثال الشهيد أحمد العوام يقفون موقفاً مناقضًا لغردون، ومتحمساً لقضية الثورة المهدية، وبذلك أسهموا في إضعاف الروح المعنوية، ومهدوا الطريق لإنجاح سياسة الحصار. وعندما بلغ الحصار غايته، ونفد المخزون الغذائي في الخرطوم، ضعفت الروح المعنوية في أوساط الجنود والرعية، وبدأ غردون يتشبث بوصول حملة الإنقاذ التي غادرت أبوطليح (وهي على بعد 32 كم شمال النيل من المتمة) متجهة نحو الخرطوم، وكتب غردون منشوراً في هذا الشأن علقه في طرقات المدينة المحاصرة، وجاء في بعض فقراته: «قد جاءت البشرى بأن الجيش الإنجليزي فَرّقَ جموعهم أي الأنصار في صحراء بيوضة، وقتل منهم أُلوفاً، ونزلت مقدمته المتمة، وهو مسرع لإنقاذنا، وبسبب هذه البشرى عفوتُ عن أحمد بك جلاب مدير الخرطوم، وعمن اشتركوا معه في مراسلة المهدي، وأطلقتُ سراحهم من السجن.» (نعوم شقير، 1981م، 526) فكتب إليه الإمام المهدي في الشأن: «إن الجردة التي تعتمدونها ما لها وجه بوصولها لكم من سَدّ الأنصار الطرق، فإن أسلمت وسلمتَ فقد عفونا عنك، وأكرمناك، وسامحناك فيما جرَى، وإن أبيتَ فلا قدرة لك على نقض ما أراده الله... وقد بلغني في جوابك الذي أرسلته إلينا أنك قلت إن الإنجليز يريدون أن يفدوك وحدك بعشرين ألف جنيه... إن أردت أن تجتمع بالإنجليز فبدون خمسة فضة نرسلك إليهم. والسلام.» وبتدقيق النظر في هذه الرسائل المتبادلة بين طرفي الخصومة، يتضح أن تعنت غردون وتشبثه بحملة الإنقاذ كان واحداً من الأسباب الرئيسة التي دفعت الأنصار إلى الانتقال من سياسة الحصار إلى الهجوم العسكري، الذي حدث في صبيحة السادس والعشرين من يناير عام (1885م)، وأفضى بدوره إلى تحرير مدينة الخرطوم، وقتل الجنرال غردون، الذي تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن المهدي كان يريده حيّاً ليفدي به أحمد عرابي.