حُرِّيَّة التعبير والفُرجة و«الإنفعال»!! أن تمنحَ أحداً حُرِّيَّة التعبير هي: أن تُغلِق أُذُنيك جيداً، ثُم تدعه يقول فيك ما شاء... فالكلام شيءٌ، ما دامَ كلاماً، لا يُريقُ دماً، ولا يكسِرُ عظماً، ولا يبقى منهُ في فضاء الله الواسع هذا إلاَّ صدىً خافت، يتلاشى في معدةِ الزمان، التي تهضم كل شيء.. وجديرٌ بنا، بأخلاقنا وبزماننا، أن تظلَّ فلسفة «حُرّيّة التعبير» المبسوطةُ أعلاه، هي الميثاق الماثلُ بين كل حاكم وكل محكوم، ليس لأن هذا هو الوضعُ المثالي، ولكن لأنَّنا ارتضينا محكومنا وحاكمنا أن نتوافق على ترسيم «حدود» بين دولة الكلام، ودولة الفعل.. أن نجعل الكلام شيئاً «مجَّانيَّاً» لا يُثابُ قائلُه، ولا يُعاقبُ تارِكُه «أو، قُل، لا يعاقب قائله ولا يثاب تاركه» .. وأن نختار لأنفسنا، بعد ذلك، نصيب الشعراء الذين يتَّبعُهم الغاوون، أولئك الذين «يقولون ما لا يفعلون» .. لا نقرأ التاريخُ جيداً، إذ لو فعلنا، لأدركنا أن أوّلَ مؤذِّنٍ بانهيار الحضارات على هذه الأرض كان دائماً هو الطلاق البائنُ بين أقوال الأُمم وأفعالها، ولما فات علينا أن انهيار الحضارة الإسلامية التي ما نزالُ نبكيها، إنّما كان نذيرُهُ «حُرِّية التعبير» بالمعنى السخيف المذكور أعلاه: أن يتحدث الجميع، ولا يسمع أحد!! دولة الكلام، حتّى في شعائر الدين والعبادة، كانت نذيراً بانهيار أعظم حضارةٍ «فاعلة» في التاريخ البشري، يوم أن راح عُشَّاقُ المنابر يُحوِّلون الإسلام كلَّهُ إلى همهماتٍ، وأصبح أعبدُ الناس هو أكثر الناس ترديداً لكلمات بعينها، سرَّاً أو جهراً، قُل كذا سبعين ألف مرِّة كل يوم، ولك الجنّة!! فالدينُ كُلُّهُ الإسلامُ الذي جاء ليُغيِّر الأُمم وليُخرج الناس من الظُّلُماتِ إلى النُّور والذي لخَّصَهُ الرسولُ الخاتم في كلمتينِ بليغتين لا تمِتَّانٍ إلى الكلام في شيء «الدِّينُ المُعاملة» «من العَمَل»، تمَّ اختِزالُهُ إلى كَلامٍ لا يُسأَلُ قائلُهُ عن عَمَلٍ، ولا يؤمَرُ بعَمَلٍ إلاّ أن يقولَ كذا وكذا!! كان الكلام مرآةً للفعل، أو دافعاً إلى الفعل، فأصبح «بديلاً» للفعل .. كان وسيلةً، فأصبح غايةً، حتَّى لقد أظلَّنا زمانٌ يُمتَحنُ الرجُل فيه كي يُرشَّح لمنصبٍ سنِيٍّ، أو وظيفةٍ خطرة يُمتَحَنُ بقُدرته على الكلام، قُدرته على إطراب سامعيه ببلاغة حديثه وطلاوة لسانه!! يقول لك المشايخ: هذا فتىً مُفوَّه، يصلُحُ للزعامة!! وحتّى مفهومُ «الدعوة» إلى الإسلام، تم اختزالُهُ في المعنى الحرفي لمادّة «دعا، يدعُو، دعوةً» أي باللسان، فأصبح المنتدبون إلى «الدعوة» رجالاً مفوَّهين ذوي أشداق، وكان الدعاةُ الذين نشروا الإسلام، أوَّلَ أمرِهِ على الأرض، رجالاً ربَّما مرَّ اليومُ واليومان ولا يتفوَّهُ أحَدُهم بكلمة، ثُم هو يرجِعُ كل يومٍ متبوعاً بآلاف المهتدين، الذين لم يسمعوا قوله، ولكن رأوا «فعلهُ»، فعرفوا كيف هُو الإسلام !!.. وكان العُلماءُ حقَّاً، الفقهاءُ حقَّاً، يفِرُّ أحدُهُم من الفتوى وإن استفتاهُ الناسُ، فيحيلهم مُشفقاً إلى غيرِهِ، فإن أُحيط به، قارب الفتوى كما يُقارِبُ أفعى سامَّة .. وتَرَى اليوم بعض المتنطعين الجهلة يقرأ كتاباً أو كتابين ثُمَّ يتصدَّى للفتوى فخوراً!! تَعرِف أنَّ دولةً ما، هي «إسلاميّة» اليوم، بمجرَّد أن تتأمَّلَ «إعلامَها» فترى قولاً لا يصلُحُ بشيراً ولا نذيراً بفعل .. وكانت الدنيا قد عرفت المُسلم، قديماً، بأنَّهُ ذلك الذي إذا قال خيراً أو شرَّاً فَعَلَ .. وقليلون اليوم، قليلونَ جدَّاً، بين زُعماء هذه الأُمَّة، الذين إذا هُم قالوا فعلوا.. قليلُون أولئك الذين يهتمُّ العدُوُّ بخُطبهم وأحاديثهم أو يُلقي إليها بالاً .. تفريغُنا من قابليَّة الفعل، لم يكُن صُدفةً، بل كان ثمرةً طبعيَّةً لزواجٍ شرعيٍّ بين غفلتِنا وذكاءِ عَدُوِّنا، الذي اجتهد في سبيل إمدادِنا بكُلِّ وسائل الكلام، و«دوافع» الكلام.. وأكثر الناس قابليَّةً لامتهان الكلام هو «المُتَفَرِّج»، الذي تتمثل هُمومُه، في غاياتها القُصوى، في «وصف ما يجري» أمام ناظريه!! ومع هذا كُلَّهُ، فإنَّ «حُرِّيَّة التعبير» مُتاحةٌ للجميع.. إغلق أُذُنيك جيداً، يا صاحب الفخامة، ودعهُم يقولوا ما شاءوا فيك، لا خوف عليك، ما دُمت لا تسمعُ شيئاً!!