«فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا جداراً يريد أن ينقض فأقامه» الآية. أول ما يسترعي الانتباه في هذه الآية الكريمة عبارة جدار يريد أن ينقض، والإرادة عادة ما يتصف بها الإنسان، فالجدار لا يملك الإرادة وبقية الكائنات من جماد وحيوان، فالإرادة تخص الإنسان العاقل والجدار لا يملك هذه الإرادة، فإن تصدع لا يستطيع مقاومة السقوط. المولى عز وجل يضرب الأمثال في كتابه الكريم لتطابق واقع الحياة في كل زمان ومكان، وفي هذه الآيات من سورة الكهف صوّر لنا تصرفات الرجل الصالح التي لم يفهمها موسى عليه السلام، بل احتج عليها وربما استنكرها. ففي حالة خرق السفينة كان لمنع الحاكم الظالم من مصادرتها، وقد قتل الغلام حتى لا يُفتن أبواه الصالحان. وإذا لاحظنا في الآية الكريمة أن كل الأفعال انطلقا، أتياه استطعما جاءت في صيغة المثنى إلا إقامة الجدار جاءت بصيغة المفرد «فأقامه» لم يشارك موسى عليه السلام في إقامة الجدار، وانتظر حتى أنهى الرجل الصالح عمله، وقال له إن شئت لاتخذت عليه أجراً. وهناك كان الفراق بينهما بعد أن شرح له لماذا فعل كل الذي شاهده موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وبعدها افترقا. وسبب نزول هذه الآيات أن موسى عليه السلام سئل من أعلم الناس قال «أنا» ولكن الله جل جلاله أراد أن يبرهن لموسى أنه خلق من هو أعلم منه. ونعود إلى الجدار الذي يريد أن ينقض، وقد ذكرت أن الإرادة صفة لا تنطبق عليه، الجدار كان لأيتام تحته كنز فإن سقط فإن الكنز سيظهر ويأخذه أهل المدينة الظالمون فيضيع على الأيتام. وقد جال في ذهني جدار مشابه لذلك الذي يريد أن ينقض وهو جدار السودان، فهو أيضاً ليتيم اسمه الشعب السوداني وهو أيضاً يمر بذات الحالة، جدار يحمل كل مؤهلات السقوط، ويحمل أيضاً الإرادة لهذا السقوط. عوامل سقوط جدار الشعب السوداني اليتيم متوفرة فالأعمدة التي يقف عليها بدأت في الانهيار واحدة تلو الأخرى، الاقتصاد ممثلاً في الزراعة والسكة حديد إنهار، فلا اقتصاد بلا إنتاج، والنسيج الاجتماعي بدأ في التمزق لانهيار الأخلاق بسبب الفقر والعوز، والقائمون على أمر البلاد امتلكهم الغرور فظنوا أنهم أعلم الناس وأخيرهم. والمولى عز وجل برهن لموسى وهو من أولي العزم أن هناك من هو أعلم منه. وجدار السودان يريد أن ينقض ولا أحد يتقدم لاقامته ليضيع الشعب السوداني اليتيم، وحينها ينقض الظلمة لينهبوا كنز الشعب اليتيم. والقائمون على الأمر شُبِّه لهم أنهم إنما يحسنون صنعاً، وليكن ظننا حسناً فنقول إنهم فعلوا ما فعلوا لصالح هذه الأمة اليتيمة، فكان أن قضوا على المشروعات الاقتصادية كما فعل الرجل الصالح، فخرق السفينة حتى لا يطمع فيها الحاكم الظالم، فهل يا ترى تم تدمير المشروعات الاقتصادية حتى لا يطمع فيها الطامعون من المغول الجدد! ونفترض حسن النية ونعتبر الأمر كذلك، ولكن كلما ضعف السودان زاد طمع الطامعين فيه. واليوم حتى الدول التي ما كانت لتقوم لولا السودان هي أول الطامعين في أراضيه وخيراته، هذا بالإضافة إلى القوى الاستعمارية التي ترسم الخطط وينفذها عنهم من ينتمون للسودان، والتقى الجميع من يملك زمام الأمر ومن يعارضه، التقوا في أمر واحد، حيث يخربون بيوتهم بأيدهم لينعم الأمريكي بكنز السودان حين ينكشف بعد انهيار جداره. وما يدور الآن في السودان من قبل النظام ومعارضته هو ما لم نسطع عليه صبراً، ولم يتصد أحد لتأويل ما يفعل سواء أكان حاكماً أو معارضاً، فليس هناك من يستطيع تأويل ما فعل كما فعل الرجل الصالح مع موسى عليه السلام. والجدران كلها بدأت في الانهيار، جدار الزراعة وجدار الصناعة وجدار النقل وحتى جدار السودان الموحد انقض وبحدود مبهمة هي أيضاً في طريقها لأن تنقض. يحدث كل هذا وكثير من الرجال الصالحين موجودون بين ظهرانينا لا يؤبه لرأيهم ولا يُسمع قولهم، والله ضرب لنا مثلاً برسول من أولي العزم وهو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكيف تتلمذ على يد رجل صالح أتاه الله العلم حتى يُدرك موسى أنه ما أوتي من العلم إلا قليلاً، فكيف ببشر عاديين يشيرون ولا يستشيرون رغم الأمر الإلهي وشاورهم في الأمر. وجدار الشعب اليتيم ماضٍ في طريق أن ينقض ولا أحد يتصدى لإقامته بأجر أو بدون أجر، لا حساب ولا احتساب. وإقامة الجدار ليست بالأمر المستحيل ولا الصعب، وتتم بأن توجه الموارد توجيهاً سليماً، ويقوم بعمليات إعادة التعمير الخبراء من التكنوقراط وليس عطالى السياسة الذين لا يجدون أنفسهم إلا وزراء ورؤساء، فاليوم لا يستطيع السودان تصدير إنتاجه الزراعي لأن تكلفة الانتاج عالية، ويفضل المنتج بيع إنتاجه في الداخل أو تهريبه لدول الجوار، فهذا يدر عليه دخلاً أكبر. والرجل الصالح قام بشرح ما فعل موسى عليه السلام، وقد اقتنع بما فعل بعد أن كان مستنكراً، فهلا تقدم ركن من أركان النظام ليشرح لنا ما لم نستطع عليه صبراً ويفعل ما فعل الرجل الصالح ويقول لنا هذا فراق بيني وبينكم. وأسأل الله أن يتصدى الصالحون لإقامة الجدار، قبل فوات الأوان.