لم أصدق إذنيَّ وأنا استمع لمن يقول إن خمسة عشر عاماً مرت على استشهاد المشير الزبير محمد صالح النائب الأول الأسبق لرئيس الجمهورية، كان ذلك وأنا قادم من الولاية الشمالية بعد أن قضيت ثلاثة أيام في مدينة دنقلا والقولد. وقد تذكرت هناك كيف بذل الشهيد الزبير جهوداً كبيرة في إدماج مجتمع مدينة دنقلا مع ما حولها من القرى الصغيرة التي يقطنها المزارعون، ليتشكل مجتمع جديد من المدينة والقرية وبين التجار والمزارعين، وتحقق له ما أراد، وتشكلت سمات حقيقية تضج بالسكان والعربات والسلع المختلفة.. باستثناء الغلاء الشديد غير المبرر رغم أن منطقة دنقلا ثرية بالمنتجات، خاصة سلعة الفول ومنتجات حوض السليم والمشروعات الكبيرة المنتجة. تمر ذكرى الشهيد الزبير وقد احتفلت بالأمس«الثلاثاء» مؤسسة الزبير الخيرية التي أُنشئت امتداداً لأياديه الخيرة وتواصلاته الاجتماعية مع الأسر الضعيفة المتعففة.. خلف الأعين الراصدة والكثير من الأعمال التي لم تكن تظهر لدى العامة إلا بعد رحيله.. والزبير ذلك الفتى الطويل الوسيم القادم من مدينة دنقلا «الأصل» وليس دنقلا العجوز كما يحاول البعض تسميتها، وهي العاصمة الحضارية والتاريخية للدولة النوبية. الزبير التحق بمدرسة القولد الأولية عام 1953 كما تقول الوثائق المتوفرة لدى إدارة المدرسة، وكان من التلاميذ المبرزين آنذاك. استطاع الزبير بعفويته ونقاء سريرته وسودانيته الطاغية، أن يكسب كل من استمع إليه، وتحدث معه وشهد لقاءاته مع الجماهير والمجموعات، وقد كنت برفقته لآخر رحلة للجنوب قبل رحلة الاستشهاد، وطلب مني مخاطبه أساتذة الجامعات المرابطين في جامعة جوبا وهم يلبسون الزي العسكري، فقلت له أنا لا أستطيع أن أخاطب هؤلاء المجاهدين لأنهم أساتذة مثلي.. وأنا أحمل قلماً وهم يحملون السلاح، فما عساي أقول لهم في هذه الحالة.. وطلبت منه أن يصعد على ظهر العربة البوكس التي كانت معدة للمخاطبة ويحدثهم بأسلوبه العسكري«الدراش» كما كان يقول.. فردَّ عليَّ بقوله«قلت كدي»، وصعد وخاطب الأساتذة المجاهدين.. وعدنا إلى الخرطوم.. وقد طلب مني أن أرافقه عندما أعلنت الرحلة.. ولكن الذين نظموا الرحلة قالوا لي بالحرف الواحد إن الطائرة امتلأت ولا مكان لتسافر.. فأعربت لهم عن غضبي لهذا الموقف.. ثم حدثت الكارثة الحزينة التي راح فيها أعز نفر من الإنقاذيين، حزنت عليهم وحزنت على نفسي كثيراً.. وما زالت القصة تراودني وأنا أتذكر حديثه معي ودعوتي لتلك الرحلة.. ألا رحم الله شهيدنا الزبير محمد صالح، وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.. وستظل ذكرى سيد شهداء الإنقاذ الذي وهب روحه للسلام والوحدة، ماثلة إلى الأبد!!