بعد إعلان (مجموعة الناصر) انشقاقها، عقد جون قرنق مؤتمراً في مدينة توريت في سبتمبر 1991م، لإعادة ترتيب أوضاع القيادة. وقد أسمى جون قرنق تيّاره ب(مجموعة توريت). ثمَّ لما استعادت قوات الجيش السوداني مدينة توريت في عام 1992م، أطلق قرنق على مجموعته اسم (الفصيل الرئيسي). وأصبح هذا هو الإسم المتعارَف عليه. في أبريل 1994م شكّل قرنق مجلساً إداريّاً جديداً ولجنة تنفيذية. كما شكّل (المجلس الوطني للتحرير) الذي عقد بعد ذلك اجتماعه. وهو أول اجتماع يعقده قرنق لحركته منذ تأسيسها في مايو 1983م. كان (المجلس الإداري) الذي يمثِّل القيادة العليا يتكوَّن من سبعة أعضاء، خمسة منهم من الدينكا، إضافة إلى جيمس واني (باريا) ويوسف كوّة (نوبة). أما اللجنة التنفيذيَّة التي شكَّلها جون قرنق فكانت تتكوّن من (22) عضواً، منهم (14) من الدينكا منهم (6) من أبناء دينكا بور (عشيرة جون قرنق). بينما تمّ تمثيل الإستوائيين بثلاثة مقاعد فقط والنوبة بمقعد واحد. أما (مجلس التحرير الوطني) فقد خلت لجانه من (النوير) تماماً. وتمّ تمثيل (الشلك) بمقعد واحد. تلك كانت ملامح (الفصيل الرئيسي) للحركة الشعبية الذي يقوده جون قرنق، ولجنته التنفيذية التي كرَّست سيطرة أبناء قبيلة الدينكا على ذلك الجسم المتمرد. لكن الإنشقاقات والصراعات القبليَّة والتيارات السياسيَّة والتكوينات العِرقيَّة، مثلما زلزلت حركة جون قرنق من قبل، كذلك زلزلت من بعد(المجموعة المتَّحدة) أى (مجموعة الناصر). حيث بعد أكثر من عامين من الإنشقاق الأول عن حركة قرنق وجدت (مجموعة الناصر)، ومن بعد مجموعة (الجيش الشعبي الموحَّد)، نفسها في نقطة البداية. فهي لم تستطع إزاحة قرنق من الساحة، ولم تطبِّق داخلها المعايير الأخلاقية التي انتقدت بها قرنق. فلا هي أشاعت الديمقراطية داخلها، ولا شكَّلت قيادتها بالإنتخاب الحُرّ، كما لم تسلم القيادة من تهمة تلقّي أموال من الخارج والإستئثار بها. ثمَّ لا هي أدارت مفاوضات ناجحة مع الحكومة، ولا تمكَّنت في حربها ضد الجيش السوداني وجيش قرنق من السيطرة على جنوب السودان الذي أعلنت أنها تنوي فصله. وخلال تلك المدة، مدة العامين منذ الإنشقاق عن قرنق، تعرَّضت (مجموعة الناصر) أو (مجموعة الجيش الشعبي الموحد) لضغوط مكثفلة من ( أصدقاء الحركة) في الخارج تدفعها باتجاه التوحُّد مع مجموعة قرنق. لكن مرارات الإقتتال الداخلي واتّساع شقة الخلافات القبليَّة والعنصريَّة داخل الحركة، إضافة إلى مطامع القيادة وغيرها، جعلت ذلك البناء الجديد يتعرَّض للإنهيار السريع. حيث بدأت الإنشقاقات في نوفمبر 1992م، عندما أعلن د. (أشول مريال)، المشرف على الشؤون الصحيَّة والإنسانيَّة في (مجموعة الناصر)، انشقاقه على المجموعة، متَّهماً قيادتها بتحويل الدعم الذي تتلقّاه المجموعة للمصلحة الضيِّقة. وبتعدُّد التيارات داخل المجموعة الجديدة (مجموعة الناصر)، تعدّدت دواعي الخلاف، خاصة بعد الإحباطات السياسيَّة التي أُصيبت بها حركة التمرُّد بصورة عامَّة. وتطورت الخلافات عندما أصبح الخط العام الذي ينتهجه زعيم (الحركة الموحَّدة) رياك مشار، أقرب إلى الخط الذي مال إليه جون قرنق، حيث أعلن الطرفان رغبتهما الصريحة في فصل الجنوب. وقد أدّت هذه التطورات، وتلك التي سبقتها، إلى بروز أربعة تيارات قَبَليَّة داخل (المجموعة الموحدة)، هي مجموعة شمال أعالي النيل (شلك) بقيادة لام أكول، مجموعة منطقة الناصر (نوير) بقيادة قوردن كونق، مجموعة بانتيو (نوير) بقيادة رياك مشار، مجموعة أيود وفنجاك (نوير) بقيادة جون لوك. لكن حدّة النزاعات بين هذه التيارات ظلَّت تتَّسع. وأدّى الخلاف إلى إعلان رياك مشار فصل لام أكول من اللجنة التنفيذية للحركة في فبراير 1994م، متهماً إياه بإجراء اتصالات مع حكومة السودان، وبقيادة تيَّار للتقارب معها. وأعاد رياك مشار تشكيل القيادة التنفيذية للمجموعة، وشكّل مجلساً للتحرير أراد به توسيع قاعدة المشاركة القبلية والسياسية في مجموعته. حيث ضمّ ذلك المجلس (54) عضواً. كما قام رياك مشار في وقت لاحق باعتقال (جون لوك) بذات تهمة لام أكول، على الرغم من أن القرار الصادر في 12/ فبراير1994م قد نصّ على تعيينه سكرتيراً أو وزيراً للثقافة والمعلومات ضمن القيادة التنفيذيّة للمجموعة. ولم يقف لام أكول صامتاً، بل اتهم هو الآخر رياك مشار بأنه يسعى لتفتيت المجموعة الموحَّدة، وأنه يقود تياراً للتقارب مع قرنق، ويتلقى من قرنق إشارات في هذا الشأن. وعمل لام أكول على استقطاب الخارجين على رياك مشار تحت قيادته. ولكنه لم ينجح إلا في استقطاب ثلاثة هم أروك طون وبيتر سولي وجمعة كوسيك. ومرة أخرى أخذت تيارات (المجموعة الموحدة) تتباعد. وأضحى رياك مشار في شبه عزلة، حيث ابتعدت عنه مجموعة دينكا بحر الغزال بقيادة كاربينو كوانين، لأنه اقترب من قرنق الذي يرون أنه تسبَّب في قتل خيرة أبناء الدينكا ومثقفيها وآخرهم (مارتن ماجير). كما ابتعد عن رياك مشارك تيَّار(وليم نون) لذات الأسباب التي أبعدت تيار دينكا بحر الغزال بقيادة كاربينو. كما انفضَّ كذلك عن رياك مشارك أبناء أعالي النيل، حيث ابتعد لام أكول وجون لوك وبيتر سولي وسايمون موري، وغيرهم من أبناء قبائل النوير والشلك والأنواك. أيضاً عزز عزلة رياك مشار انشقاق أعداد كبيرة من القوات التابعة ل (الحركة الموحَّدة)، حيث قامت بتسليم نفسها للجيش السوداني. وكان آخر حلقات موجة الإنشقاقات داخل (المجموعة الموحدة) إعلان لام أكول ومجموعته أنهم أقصوا (مشار) عن القيادة، وإعلان (مشار) من جهته تغيير اسم المجموعة إلى (حركة انفصال جنوب السودان)، ثمّ إعلان لام أكول مرة أخرى أن اسم (الفصيل المتحد) باقٍ وأن (مشار) هو الذي انشقَّ بسبب العزلة التي أدخل نفسه فيها. وهكذا، نجد أنه خلال المدة من 12/فبراير1994م حتى 10/ اكتوبر 1994م فقط، قد خرج على قيادة رياك مشار، ومجلسه الوطني للتحرير، ثمانية عشر قيادياً يمثلون غالبية أعضاء القيادة التنفيذية وأكثر رموز القيادة السياسية والقبلية ل(المجموعة المتحدة). إذ أنه إضافة إلى الذين سبقت الإشارة إلى أسمائهم، نجد هناك قائمة تضمّ عدداً كبيراً من القيادات السياسية والقبلية البارزة منهم القاضي (دول أشويل) و(جون كولانق) و(قوردن كونق) و(جيرماك أفريكا) و(فاوستينو أتيم قوالديت) و(أمون مون وانتوك) وبروفيسور (إسحاق رياك) و(تعبان قاي) و(شول دينق ألاك) و(جون أوكواي) و(مارتن كينيّ) و(رستم على مصطفى) و(جمعة كوسيك). وعلى إثر تلك الإنقسامات السياسية والقبلية الحادَّة داخل (المجموعة المتحدة) أو (مجموعة الجيش الشعبي الموحّد)، وعلى خلفيَّة تشكيل المجموعات الجديدة التي تمَّت الإشارة إلى تيَّاراتها، انقسم القادة العسكريُّون الميدانيون (المجموعة المتحدة) وتوزعوا على الفصائل الجديدة التي نشأت، لتتمَّ كتابة فصل جديد من رحلة الحركة الشعبية من المهد إلى اللحد. تلك الحقائق تكشف كم هي مضلِّلة دولة الجنوب اليوم، عندما تدَّعى أن ثوار الجنوب، أي حركة تحرير الجنوب من الحركة الشعبية، مجرَّد صنيعة شمالية، وتضع وراء ظهرها الإرث الدامي الطويل من الصراع الداخلي فى الحركة الشعبية. ذلك الصراع السياسي القبلي العرقي الدموي الذي ظلّ يرتبط بالحركة الشعبية، ارتباط الصورة بالظل، منذ نشأتها وإلى اليوم. لكن إلى متى تغضُّ دولة الجنوب التي يزلزل ثوار الجنوب أركانها نظرها عن ذلك الصراع الداخلي الدموى المرير الذي ظلَّ يرافق الحركة الشعبية من المهد إلى اللحد؟.