حزمة من المعطيات السياسية الجديدة تتفاعل بقوة داخل مكوِّنات المؤتمر الوطني حيث تتباين الرؤى والأفكار والتوجهات إزاء ما يجري من قضايا في المسرح السياسي السوداني، وهذه التباينات تتقارب حينًا ثم تلتقي ولكنها قد تتقاطع في أحايين كثيرة تحاول أن تتشكل في مظهرها العام لتكون صورة داخلية غير منسجمة. قد يبدو للمراقب أن المؤتمر الوطني في مظهره العام لا غبار عليه لأن العبقرية السياسية لدى بعض قيادات الصف الأول تحاول إظهار الحزب أو وتسويقه وكأنه الحزب الملهم الذي يأتي بالحلول السحرية لكل المشكلات مهما صعب أمرها. ولكن المؤتمر الوطني هذا ليس استثناء من المنظومة الحزبية التي ضربتها حروب الانشقاقات والانشطارات السياسية وفتكت بها أمراض شتى أجهضت كل أدوارها وإسهاماتها في مشروع البناء الوطني. وبمثل ما تعاني القوى الحزبية من التيارات الناهضة التي تنشد الإصلاح فإن المؤتمر الوطني نفسه يعاني من مثل هذه التيارات ولكنها تيارات تحاول باستحياء النهوض والوقوف على ساقيها قد تبدو غير مكتملة الملامح والأطوار لتشكيل أي تنظيم أو تيار سياسي جديد قياسًا على التيارات والأجنحة السياسية الأخرى التي تنشط وبشكل واضح في واجهة أحزابها، أما حال المؤتمر الوطني فتياراته الداخلية أو المجموعات الإصلاحية فلم تصل بعد إلى مرحة بلورة أفكارها أو الإعلان عن نفسها باستثناء مجموعة «السائحون» ولكن هذه المجموعات التعبير عن توجهاتها عبر المذكرات السياسية والتصريحات التي دائمًا ما توصف بأنها خارج الأطر المؤسسية ودونكم حادثة المحاولة التخريبية الأخيرة والتي تحولت إلى انقلابية لاحقًا بعد أن تبدل المصطلح فالتخريبية في التوصيف السياسي للحركات السياسية يُفهم في أدبيات الحكومة بأنه خيانة أو عمالة، وهي ذات الاتهامات التي لم تتوصل الحكومة إلى إثباتها.. فالانقلابية هي إذن حركة إصلاحية بدأت مشروعها بالنصح والتناصح وجلد الذات ثم تطورت إلى عقد اللقاءات المغلقة ثم دفعت بالمذكرات والمقترحات والمطالبات لكن الصورة لم تتبدل ولم يتغير الواقع فاستمرت التجربة السياسية الحاكمة في النزيف والاستنزاف والتأكُّل من الداخل فاتسعت قاعدة الترات الناهضة فتبلورت الفكرة لدى الانقلابيين ونضجت تمامًا فكانت ساعة الصفر قاب قوسين أو أدنى فسقط المشروع الإصلاحي تحت أقدام الحاكم لكن المشروع ذاته لم تفلح الحكومة في استئصاله، فالفكر الإصلاحي ما زالت بذوره حاضرة وفاعلة داخل كياني المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، فالحديث عن الحراك الإصلاحي داخل المؤتمر الوطني يحتم على قيادة الحزب التوقف عند محطة البيان الذي خرج إلى الساحة السياسية باسم منبر تيار الإصلاح بالمؤتمر الوطني والذي تبناه القيادي عبد الغني أحمد إدريس في أعقاب ليلة القبض على صلاح قوش ومجموعته. ولعل هذه البذور وكأنها الآن في مرحلة التناسل أو التكاثر فالسائحون يحاولون الآن التمدد في مساحات شاسعة ويكسبون كل يوم نفوذًا وأنصارًا جددًا ليس من داخل الكيان الحزبي الخاص ولكن حتى من خارج حلفهم القديم ولهذا فإن الذين يتبنون أفكارًا إصلاحية يعتقدون أن الإرادة السياسية بالدولة وبالحزب تعرضت لهزات عنيفة أفقدتها قدرًا من الهيبة والقوة وباتت الحكومة بفعل مواقف مرجعيتها السياسية والحزبية تقف على رمال متحركة قد تفقدها كثيرًا من ثوابتها وقيمها التي بنت عليها مشروعها الإسلامي منذ فجر الثلاثين من يونيو «1989».. وبالتاكيد من غير المنطق فهم حركة السائحون أو مبادراتهم الإصلاحية التي طرحوها باسم «نداء النهضة والإصلاح» من غير المنطق فهمها خارج نطاق أو تداعيات المحاولة الانقلابية ربما يقترب فهم الكثيرين لطبيعة العلاقة ما بين السائحين والانقلابيين بأنها علاقة قيادة وجماهير خصوصًا أن مجموعة السائحين تمارس نوعًا من الضغط السياسي والتنظيمي لفك أسر الانقلابيين وتحريرهم من داخل القضبان. وبعيدًا عن حركة مبادرة السائحون فهناك تيارات شبابية ربما مسنودة من بعض قيادات الصف الثاني بالمؤتمر الوطني ظلت تطالب باستمرار بضرورة الإصلاح وإبعاد القيادات القديمة عن واجهة السلطة في الحزب والحكومة لأن هذا الوجود المتكرر في كل مراحل التحولات السياسية التي شهدتها الدولة السودانية لم تتحقق معه أي حلول أو تسويات سياسية لكل الأزمات التي مازالت مستعصية على الحلول لاسيما قضية الحرب والسلام مع دولة الجنوب في فترتي ما قبل الانفصال وبعده كما أن هذه القيادات المكرورة لم تفلح في تحقيق الوئام الوطني مع كل مكونات القوى السياسية فمازالت الشقة متسعة والثقة مفقودة بين الحكومة والقوى الحية والحديثة في المجتمع السوداني، وهذه الحقيقة تعني أن القيادة الحالية في الحزب فشلت حتى الآن في أن تقدم وصفة علاجية أو مشروعًا سياسيًا تلتفّ حوله عضوية الحزب قبل أن يكون هاديًا أو مرشدًا لكل الأطياف السياسية فالدكتور قطبي المهدي أحد أبرز قيادات الصف الأول ظل يقدم ما بين الحين والآخر انتقاداته السياسية لواقع المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، وفي إحدى أطروحاته وصف الإنقاذ بأنها دواء جيد لكنه فاقد الصلاحية، وقتها طالب الدكتور قطبي بضرورة التغيير والتطوير والإصلاح وإلزام قدامى اللاعبين بالتقاعد. واتفق مع هذا الرأي دكتور غازي صلاح الدين القيادي البارز بالمؤتمر الوطني بوصفه أحد القلائل الذين يُدلون بآراء جريئة وصريحة ودون مواراة داخل مؤسسات الحزب والدولة، فقد أثار الدكتور غازي عدة تساؤلات عقب مؤتمر الحركة الإسلامية الأخير دعا فيها إلى إصلاحات عاجلة في بنية الحكومة وإخراجها من مستنقع الفساد الذي استشرى في الأجهزة الحكومية «كما النار في الهشيم» دون أن يكون هناك رادع لهذا الفساد، ووصف في حديث سابق مع «الإنتباهة» مبادرة سائحون بأنها حيوية ومنفتحة وإصلاحية وأن من قاموا بالمبادرة شباب فاعلون ومبادرون ويجب أن يُدعموا ويتم تشجيعهم حتى يستمر مشروعهم الإصلاحي.