قضية جنوب كردفان فيها من التناقض ما «يكفي» والحديث عنها وفق المنهج الذي تحدثت عنه في المقال السابق لا يمثل تجنياً على القيادات التي ذكرتها في ثنايا الحديث - (اللواء محمد مركزو كوكو والوزير الطيب حسن بدوي والبروفسير خميس كجو) ولا يُعتبر مزايدة على وطنيتهم ولا يمكن أن ينتقص أيضاً من شعورهم القومي ولكنني كنتُ أتحدَّث عن طرائق وأُسس جديدة نحو الوعي الوطني ومحاربة التعصب القبلي والإحساس المتوهَّم أحياناً بأن هناك وصايا من البعض لتحد من تحركات الآخرين في ساحات الوطن الكبير.. كنتُ ومازلت أرى أنه ليس هناك ضرورة قصوى لانتقاء بعض القيادات لأسباب ثقافية أو اجتماعية لإدارة الملفات لا سيما تلك التي تتعلق بعملية الحوار مع حاملي السلاح في جنوب كردفان، طالما أن أبناء النوبة المنضمين للحركة الشعبية كانوا ولثقتهم في قيادة الحركة الشعبية قد فوضوا أمر قضيتهم والحوار بشأنها في مؤتمر «كاودا» الشهير، إلى زعيم الحركة الراحل الدكتور جون قرنق كي يتفاوض نيابة عنهم، وكانت هذه الخطوة حينها مثار جدل كبير وسط قطاعات النوبة بالداخل والخارج، أقول هذا وفي ذهني أن (اللواء مركزو) كان رجلاً أساسياً وله مساهمات واضحة في المفاوضات التي جرت بالعاصمة السويسرية (جنيف) عام «2002م» بين «الحكومة» و«الحركة الشعبية» بوساطة سويسرية ورعاية أمريكيَّة، وهي التي قطعت شوطاً كبيراً في ملف التسوية الذي بدأ بوقف إطلاق النار وتقديم المعونات في مناطق جنوب كردفان.. برغم المخاوف والتشكيك حينها في «أمريكا» والحركة الدؤوبة للسيناتور الجمهوري جورن دانفورث المبعوث المكلَّف بملف الحرب والسلام في السودان، لكن نستطيع أن نقول إن مفاوضات سويسرا قد فتحت بعض المنافذ وأسهمت في أن تجلس الحركة الشعبية «الأم» في «طاولة» تفاوض جادة بعد أن اقتصرت «سويسرا» التفاوض على ممثلي الحركة في منطقة «جبال النوبة» وهو ما أثار مخاوف الجنوبيين من أن يسحب البساط من تحت أرجلهم، وبكل صراحة كان «مركزو» وآخرون لهم إسهامهم في فتح تلك المسارات لكن ذلك لا يعني أن يمضي البعض من أبناء النوبة على طريق «المغالاة» في الملف والسير على أن أبناء النوبة مهمشون ومهيمَن عليهم من البعض ولا بد من أن يجعل لهم تمييزًا إيجابيًا على الآخرين.. من كرسي الصحافة التحليلي أتفق مع «اللواء مركزو» و«الوزير الطيب» اللذين هاتفاني ودار بيننا حوار عميق حول القضية وظلالها وتاريخها وجذورها ومضاعفاتها وآفاق الخروج من أزمتها، أتفق معهما أن المواقف المتباينة داخل البيت الواحد ليست خصماً على القيادي داخل «المؤتمر الوطني» أو في صفوف «التمرد» وإنما عند السياسي الشاطر هو يعتبر كسبًا سياسيًا، لكن بالمقابل يُفترض أن يصبح هذا آلية تأثير إيجابي على الذين هم في الاتجاه الآخر لأننا قد نتفق أن أبناء النوبة في السابق كانوا مقاتلين داخل صفوف التمرد بقيادة جون قرنق بمحض إرادتهم وقناعتهم بأن مظالمهم لا تحل إلا بحمل السلاح رغماً أنها مظالم هم يرونها تاريخية بقدرما هي مظالم ربما لحقت بالكثيرين من أبناء السودان، أما الآن وبعد انفصال الجنوب فنسأل بأي عقيدة يقاتل أبناء النوبة مع دولة الجنوب؟!! هل هو تحالف ضمن سياسة التمسك بالمناطق الثلاث كموقف ثابت لضمها إلى دولة الجنوب؟! أم أن هناك رؤية لأبناء النوبة في الحركة الشعبية لتغيير الخريطة السياسية والاجتماعية لولاية جنوب كردفان بإصرارهم على تسمية القضية بجبال النوبة.. قناعتي الشخصية أن يعالَج ملف كردفان الكبرى سياسياً في آلية واحدة يكون رئيسها «مركزو» أو غيره على أن يكون داخله تقسيمات تراعي خصوصية «أبيي» و «جبال النوبة» وغيرها من التعقيدات، لكن كثرة التجزئة وصناعة الكيانات والمنابر سوف تضعف الحلول وتفتت وحدة الصف الوطني والكردفاني، فإذا سار الناس في عملية التمييز الإيجابي لكل من حمل السلاح وتمرد فسوف نغري كل من شعر بالتهميش مجرد شعور بأن يسلك طريق التمرد، هذا لا ينفي وجود قضية لأبناء النوبة سواء كانت ثقافية أو اثنية أو دينية لكن لماذا نُضعف الكفاءات من أبناء النوبة أو يضعفوا أنفسهم بإعلاء نبرة نبذها الآخرون؟! ولماذا يتراجع الأغلبية ويرضخون للقلة التي تراهن على أجندة أيدولوجية وأبعاد فكرية تتسق مع منفستو دولة جنوب السودان؟! علمت أن اللجنة السياسية لأبناء النوبة تعمل في مسار غير التفاوض وهو البحث عن حلول جذرية لمشكلة جبال النوبة في بُعدها الثقافي وتلك الأجيال التي حفر في ذاكرتها وأذهانها مصطلحات ومفاهيم مثل «العروبة والإسلام» وغيرها وأصبحت على خطوط معادية ومنافرة لكل من ينتسب لهذه «الكيانات»، وبتحريك من أصابع دولية وضغوط بوسائل مختلفة بجانب استغلال القوى المعارضة لأبناء النوبة في صراعها السياسي مع الحكومة لكن هذه اللجنة مطالبة بكشف حساب حول ما أنجزته حتى الآن وما هي رؤيتها لانتشال النوبة حتى لا يستمروا وقود حرب إلى جانب مساهمات اللجنة في تليين المواقف في التفاوض الضمان لوحدة السودان هو عدم تجزئة الملفات ومازلت على قناعتي بأن «اللواء مركزو» بمقدوره إدارة ملف كردفان بإلحاق مشكلات كردفان الأخرى وتوسيع نطاق التكليف يشمل قيادات ورموزًا كردفانية أخرى لها تأثير وقبول على الآخرين ومحل ثقة لمعرفتها الجغرافية والسياسية والاجتماعية لكردفان وتمتلك من الخبرات التراكمية ما يمكِّنها من اختراق الملفات المعقدة والشائكة!! دولة الجنوب وحلفاؤها الدوليون مصرون على ضم المناطق الثلاث (جبال النوبة - النيل الأزرق وأبيي) إلى خريطة دولة الجنوب لأهميتها الاقتصادية والإستراتيجية واستغلالها جغرافية عازلة من السودان الشمالي، ولذلك تستخدم كل الحيل للاحتفاظ بجيوشها في هذه المناطق وسوف تستمر في الإغراءات والتعبئة وسط أبناء هذه المناطق، والآن «جوبا» تعطي أبناء هذه المناطق تمييزاً إيجابياً يعطيهم الإحساس بأنهم الأقرب ثقافياً ودينياً إلى دولة الجنوب بالرغم من أن هؤلاء قلة لكن للأسف صوتهم هو الأعلى بينما أسهم تقاطع المصالح والأجندة الشخصية في خفت صوت الأغلبية ذات الهُوية السودانية الأصيلة بلا مزايدة، تعذرت لغة التواصل بينهم وبين البعض الآخر، وصاروا يتحدثون بلغة مزدوجة يغلب عليها الصوت المطالب بأسس جديدة تحفظ لهم حقوقهم الاجتماعية والسياسية التي يرون أنها منقوصة أو بها قدر من الوصايا!!