من يعتقد أن الحركات الطوارقية في شمال مالي أبيدت أو قد خمد نشاطها نتيجة ما يعتقد البعض أن الضربات الفرنسية المتلاحقة كانت قاصمة للظهر، فإن كانت هذه هي رؤية البعض الذي يرى في الحلف «الصهيويوروأمريكي» القوة التي لا تقهر، فحتماً أمثال هؤلاء يتجاهلون عمداً نظرية حرب المدن التي تستدرج الغازي إلى داخل أراضي المعركة، لأن أهلها أدرى بشعابها وتضاريسها، فهل نسينا كيف استقبل علي فارح عيديد استقبال الغزاة الأمريكان في ميناء كسمايو وهو يحمل العلم الأمريكي مرحباً بهم؟!!، وكيف كانت مقاومته حتى هربوا من مقديشو كالجرذان، وكذلك حرب التحرير الفيتنامية هي الشاهد والدليل التاريخي لإثبات صحة ما أزعم ، ومع ذلك فربما أخذت قوات الفرنسيس نشوة وسكرة مقدمات الانجرار كأنها النصر النهائي فأخذتهم سكرة النشوة على أنه انتصار تحقق وأنها قد قضت على هذه الحركات الطوارقية الأزوادية العربية قضاءً مبرماً، فمثل هذه التصريحات قد تقبل على سبيل مادة لرفع الروح المعنوية، فقد تعلمنا أثناء هزيمة 1967من الإعلامي «أحمد سعيد صوت العرب» أن قيادة الحروب الإعلامية أسهل وأيسر من قيادة حرب المدن والعصابات. أما الحروب الإعلامية فهي تظهر ما يراد له فقط أن يظهر مع تجنب كل ما من شأنه أن يقود إلى اليأس والإحباط والانهيار النفسي، حيث أدت إلى حالات من الانتحار بين القوات الغازية. إن الحلف «الصهيويوروأمريكي» لا يتعلم من مكايده التي يدبرها، فمثلما تمّ له فصل جنوب السودان لتمايزه عن العنصر الأفرو عربي المسلم، فيفترض عليه أيضاً أن يقرأ ويستصحب التاريخ والديموغرافيا، وظلّت الخريطة الاقتصادية والاجتماعية لمالي على مرّ عقود الاستقلال ترسم خطّ فصل افتراضي بين جزءين متمايزين؛ شمال هو الأكثر تضررًا من الجفاف والأقلّ تنمية تمثّل تمبكتو وغاو وكيدال أهمّ مدنه، وجنوب تقع فيه العاصمة باماكو وتتركّز فيه الأنشطة الاقتصادية الأساسية في البلاد. يعدّ عدم الاستقرار وحركات التمرد في الشمال سمةً دائمة من سمات الوضع الماليّ. في حين تميّزت الأوضاع السياسية بالصراع على السلطة على وقع الانقلابات والأنظمة الديكتاتورية مع اضطرابات اجتماعية ووضعٍ اقتصادي هشّ، وزادت فترات الجفاف والقحط الممتدّة من حدّته، إذ تعدّ مالي من بين أفقر عشرين دولة في العالم!! وكما ذكرت فإننا يجب أن نستصحب التاريخ القريب في السودان وتمرد الحركة الشعبية على سلطان الدولة وقد ساندهم الحلف «الصهيويوروأمريكي» إذ لون متمردو الحركة الشعبية تمردهم بالاضطهاد الديني والإثني أي حاولوا إصباغ نعرة استعلاء العرب المسلمين على الزنج المسيحيين، وبالتالي فقد قام الطوارق بحركات تمرّد متكرّرة على امتداد العقود الخمسة لاستقلال مالي، وشهدت الفترة ما بين عام 1990 وعام 2009 أكبر عددٍ من محاولات التمرّد. ولم تفشل دولة مالي الحديثة في تحقيق التنمية الاقتصادية المتوازنة بين أقاليمها فحسب، بل فشلت فشلاً ذريعًا في دمج مواطنيها في إطار هويّة جمعية واحدة أساسها المواطنة، تتجاوز حدود الانتماءات الإثنية والقبلية. حينما يتمرد جنوب السودان يمد له الغرب كل أنواع الدعم والمساعدات لأن المصالح تتقاطع وتلتقي عند محاربة العنصر العربي المسلم، أما حينما يتمرد شمال مالي العربي الطوارقي الأزوادي المسلم ضد مهمشيه الأفارقة فمن باب أولى غزوهم وإبادتهم بحجة أنهم متطرفون إسلاميون ذو علاقة بتنظيم القاعدة، ومن يتابع ويقارن ما بين تمرد جنوب السودان وتمرد شمال مالي يلحظ أن هناك تطابقاً حتى في اتفاقيات سلام تكررت عبر تاريخ النزاع بين الشمال وحكومة مالي، وانتهت محاولات التمرّد الطوارقية في القرن الماضي وفي العشرية الأولى من القرن الحالي باتفاقيات سلام بين المتمرّدين الطوارق والحكومة الماليّة. وشهدت الفترة التي تلت آخر اتفاقية من هذا النوع في عام 2009 استقرارًا نسبيًّا، حتّى اندلاع تمرّدٍ جديد في كانون الثاني / يناير 2012م. فمن المهم أن نحاول إيجاد علاقة ولو لمجرد المقارنة الظرفية والمكانية بما حدث في السودان أدى إلى انفصال الجنوب بمساندة ودعم من الحلف «الصهيو يورو أمريكي» بينما ترك العرب والمسلمون السودان أعزل إلا من تصريحات خجولة، فالحلف يفعل ولا يتكلم حتى فرض نفسه عبر أصدقاء الإيقاد ليكون حاضراً في كل المفاوضات، ونفس الموقف الذي وقفه العرب والمسلمون مع السودان ها هو يتكرر اليوم في شمال مالي. بالطبع فرنسا ليست مبعوثة العناية الإلهية لحماية شعب مالي ولكن تمثّل مصالح فرنسا الاقتصادية في منطقة الغرب الإفريقي عاملاً تفسيريًّا آخرَ لاستراتيجيتها في هذا الإقليم وكذلك في تعاملها الأخير مع أزمة مالي. وعلى الرغم من محدودية مصالحها الاقتصادية المباشرة في مالي بحكم محدودية استثماراتها فيها مقارنةً مع بلدان أخرى، إلا أنّ مالي قطعة مهمّة في إطار إقليمٍ تنشط فيه فرنسا اقتصاديًّا. وعليه، فإنّ تهديد استقرارها يهدّد مصالح فرنسا الاقتصادية في بلدانٍ مجاورة مثل: النيجر، والسنغال، وبوركينا فاسو، وكوت ديفوار. ولمالي أهمّيةٌ بالغة بالنسبة إلى فرنسا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مناجم اليورانيوم النيْجرية التي توفّر احتياجات المحطّات الفرنسية النووية التي تقع مباشرةً على حدود النيجر مع مالي!! وحتى أثبت لكم مدى النفاق والتدليس الذي يمارسه الحلف «الصهيويورو أمريكي» عند تلفيقه أسباباً كاذبة تبرر تدخله في العراق فها هو الرئيس فرانسوا هولاند يمارس نفس الكذب والتدليس، وعلى الرغم من أن الرئيس الفرنسي صرَّح بأن: «فرنسا ليست لديها أية مصالح في مالي، بل هي ببساطة تخدم السلام»، وحدد أهداف العملية العسكرية هناك بوقف اعتداءات المتمردين، وتأمين العاصمة «باماكو»، والحفاظ على وحدة أراضي تلك البلاد، وتحرير الرهائن المحتجزين فيها، مؤكدًا أن بلاده ستنهي تدخلها في مالي وستسحب قواتها من هناك بمجرد أن يعود الاستقرار والأمان لها، ويصبح بها نظام سياسي راسخ، ولكن واقع الأمر يؤكد وجود مخاوف فرنسية وأوربية من: «إقامة دولة إرهابية على أبواب أوربا وفرنسا تحكمها مجموعات تستهدفنا علنًا، وعلى رأسها القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، بحسب ما صرَّح وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لو دريان. قصاصة أموال دافع الضرائب الفرنسي والخزانة الفرنسية ليست مستباحة لفرانسوا هولاند وكأنها جمعية خيرية يتصرف فيها على هواه وكيف شاء، وكذلك ليست متروكة له ليقامر يلعب بها في كازينوهات القمار، أو ينفقها في حروب عبثية، والدليل أن خلفيات التدخل الفرنسي لا يمكن اختزالها في الخطر الإرهابي فقط، وإنما يقف وراءها أيضا ًمصالح اقتصادية، إذ تمثل مالي وشمال غرب إفريقيا على نحوٍ عام موردًا مهمًّا لليورانيوم والنفط والغاز والذهب واللؤلؤ والكوبالت، وتخشى فرنسا من أن تَحُول الجماعات الأصولية في شمال مالي دون الاستثمار الواسع في تلك المنطقة التي لم تستغل كاملاً بعد، ويكفي الإشارة إلى رغبة فرنسا في تعزيز وجودها حفاظًا على مصالحها الواسعة في المنطقة المجاورة لمالي، وخصوصًا كما ذكرت آنفاً في النيجر، حيث تتزود بنحو «80%» من اليورانيوم الخام. علينا أن نتفهم من خلال المشهد والأحداث أنه ما زال هناك تهديد قائم ومستمر من قبل المجموعات المسلحة في غرب إفريقيا، والتي وعدت برد قوي على فرنسا لهجماتها على مواقع المقاتلين الإسلاميين، فقد تم احتجاز «132» عاملاً أجنبيًّا من العاملين في حقول «عين أمناس» جنوبالجزائر، ينتمون إلى إحدى عشرة دولة؛ هي: النرويج، وفرنسا، والولايات المتحدة، وبريطانيا، ورومانيا، وكولومبيا، وتايلاند، والفلبين، وأيرلندا، واليابان، وألمانيا، وذلك مع احتجاز حوالي «600» جزائري، ليضطر الجيش الجزائري إلى التدخل عسكريًّا ضد المسلحين في عملية أدَّت بحسب تقديرات غير نهائية إلى مقتل «32» مسلحًا و«23» من الرهائن وتحرير قرابة «650» رهينة منهم «573» جزائريًّا وحوالي مائة أجنبي، فيما لا يزال مصير عدد منهم مجهولاً. لا شك أن العمليات الجارية في مالي أبانت عن صعوبات في إلحاق الهزيمة سريعًا بالمقاتلين الإسلاميين، ولاسيما في مناطق غرب مالي، حيث أكد دبلوماسيون فرنسيون ودبلوماسيون آخرون في الأممالمتحدة أن الاشتباكات الأولية التي خاضتها القوات الفرنسية ضد المسلحين في مالي أظهرت أنهم مدربون ومسلحون أفضل مما توقعت فرنسا قبل أن تشرع في التدخل العسكري، الأمر الذي أرجعوه إلى انضمام مئات من أفضل عسكريي الجيش المالي إلى صفوف المتمردين بعدما تدربوا جيدًا على أيدي الخبراء الأمريكيين لمحاربة الإرهاب عدة أعوام، وذلك لرفض جانب كبير منهم التدخل الأجنبي في البلاد، وأيضًا للتسلح الجيد الذي حظيت به القوات المقاتلة بعد سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا. في الختام لا بد أن ننوه بأن فرنسا ورطت نفسها في مستنقع الأزواد والطوارق والعرب المسلمين ولن يصبح بعد اليوم مقبولاً لديهم بأن يحاربهم الحلف. «الصهيويوروأمريكي» تحت شعار الأسطوانة المشروخة وهي «محاربة التطرف الإسلامي وتنظيم القاعدة» أي المشجب الذي تعلق عليه مبررات التدخل والغزو الأجنبي في البلدان المسالمة!! فالأزواد والطوارق والعرب قد تم تهميشهم مثلما ادعت الحركة الشعبية بتهميش واضطهاد شمال السودان لهم حتى تم لهم الانفصال، فذات المعايير التي طبِّقها الحلف الخبيث في جنوب السودان كان يجب أن تطبق في شمال مالي، ولكن معيار الحلف الخبيث هنا اختلف وإلا فإن هذا المستنقع سيشهد أحداثاً دراماتيكية سيعض حتماً بعدها الحلف بنانه ندماً على هذا التدخل! يقال إن دخول الحمام ليس كالخروج منه!!