فى سبعينات القرن الماضى جىء لنا بأحد الاخوة الطلاب من مصر(حسنى الزعيم) ليدرس معنا دراساته الجامعية بالسودان فكان ذلك محل تساؤلنا ومصدر قلقنا وحيرتنا فمصر التى يرد اليها الطلاب من بلاد العرب والعجم كيف لها ابتعاث طلابها الينا اللهم الا ان يكون ذلك عملا استخباريا خاصة فى ظل التنسيق والتكامل ما بين الاتحاد الاشتراكى المصرى ورديفه السودانى ... تقربت منه وتعرفت عليه واسكنته معى فى غرفتنا الرباعية وظللت ارصده عدة اشهر حيث تأكدت مخاوفنا بكثرة خروجه وعودته بسيارات مختلفة آواخر الليالى ..(وكثيرا ما يسألنى اخوتى بقولهم ما فعل اسيرك البارحة) ذات يوم دعوته لمشاهدة مباراة بين الهلال والمريخ بام درمان ففاجأنى بسؤاله عن كم ساعة تستغرق الرحلة لام درمان وهل نركب القطار ام البصات .. ذهلت عن جهله ببلادنا ونحن الذين نعرف مصر كفرا كفرا مال هذا يجهل عاصمتنا الوطنية وموقعها .. من بين اسنانى شرحت له موقعها وبسطت له الامر لكنه ما اذداد الا ترددا وقلقا ولما كثر إلحاحى عليه قال لى (بصراحة انا مامتى مشددة على ما اخرجش بعد الغياب لانو بصراحة وما تزعلش منى عندكو جماعة بياكلو الناس) كدت اسقط من هول ما سمعت لكنى تمالكت نفسى وانصرفت وليس فى بالى شى سوى تحقيق مخاوفه وقد كان ان جئنا ب(ام فتفت والفشفاش والكبد) صباح جمعة وقطعناها امامه وقد كادت عيونه تخرج من مجاحرها واكاد اسمع اصطكاك ركبه واسنانه وحين دعوته للافطار طار حتى كاد يسقط من الطابق الثالث ..ولعشرة ايام ما راينا له اثرا لا بغرفة السكن ولا بقاعة الدراسة ..وحين عاد عاد مخفورا ببعض (البودى قارد) حيث حمل اغراضه ولما تقدمت منه لوداعه احتمى برفقته ملوحا بيده والرعب يكاد يقتله(مع السلامة يا قعفر مع السلامة يا قعفر) وغادرنا بغير رجعة لبلاد أكلة لحوم البشر .. ولعله لا يزال يحكى لكل من يعرفه كيفية نجاته من أكلة لحوم البشر .. ومنذ السبعينات ارصد المكتبة المصرية لعلنى اطلع على ما يخطه قلمه عن أكلة لحوم البشر وأسال نفسى أنت فين يا واد يا حسنى ... اخشى ان يكون من اقطاب المعارضة وموزها فان جلهم وفى جميع بقاع العالم على هذه الشاكلة مشهد ثان: و فى ثمانينيات القرن الماضى ايضا وفى صحراء السعودية كان يعمل معنا(محمود) احد الاخوة المصريين رأيته يوما فى حالة من الوجد والخشوع يقلب بين يديه علبة فارغة من منتجات مصانع(قها) المصرية لتعليب الفواكه والخضر جاء يحملها من مكب النفايات وحين سألته (مالك يا محمود) رد على من عمقه العاشر والعبرة تسد حلقه والدموع تبلل وجنتيه (والله يا بيه دى مصر خيرها مالى الدنيا كلتها) ودفع لى بالعلبة الفارغة وقد بللتها الدموع الدافئة,فانخلع فؤادى واقشعر بدنى (وشعرت جلدى كلبت) فما وجدته الا فى حضنى كوليد يلوذ بأمه .. فبكيت مرتين واحدة لصدق مشاعره تجاه وطنه والثانية لغيات تلك المشاعر عن كثيرين من متعلمي وطنى الذين وضعوا انفسهم تحت قيادة وتصرف الموساد والسى آى إيه طلائع غزو لها فى الخارج وعيون رصد لها بالداخل فقط لكرسى زائل او مال حرام ماحق وساحق وجهلة يساقون سوق النعاج لحتوفهم وقودا لحرب تصليهم بنيراناف الأميال يبكيه الحنين لوطنه.. ولخمسة عشر عاماً قضيتها بالسعودية ما استمعت لأي من الإخوة المصريين حين يهاتف أهله إلا ويبدأ بالسؤال عن مصر أولاً «إزاي مصر.. سلمي على مصر» ثم يسأل عن أهله وعياله. المشهد الأول، أهديه للمعارضة هنا وهنالك. والمشهد الثاني أهديه للوطنيين هنا وهنالك الذين نعود لكليهما الأسبوع القادم بإذن الله.