[email protected] اليوم الأثنين التاسع من يناير ، كان أول يوم في المدارس ، بعد أجازة عيد الميلاد و الكريسماس . و هذا يوم راحة و فياقة بالنسبة للأسر السويدية . فالطالب منذ الحضانة إلى ان يدخل الجامعة يتلقى أكلاً جيداً و وجبات ساخنة طول اليوم . لا مليم لا قرش . و ليس هنالك مدارس خاصة . فالمدارس تجمع ابناء الفقير و المليونير. و لكن اولادنا كما عودناهم ، لازم يكون في أكل في البيت . لأنه اكل المدرسة ما بعجبهم . و حتى أكل البيت كل واحد عنده مزاج و طلبات . السوبر ماركت الذي يتملكه العرب ، و الذي كنّا نشتري منه سنين عديدة . غيّر سياسته . و صاروا لا يقومون بفرم اللحم ، على زعم ان الماكينة قد توقفت . و بما أنني اعرف بعض الأخوة الذين يعملون كموظفين في ذلك السوبرماركت ، فأن السبب الحقيقي أن صاحب المحل يريد ان يبيع اللحم المفروم الجاهز . و الذي هو عبارة عن اشياء ما انزل الله بها من سلطان . و هنا مكسب كبير لصاحب المحل . و مجال للتلاعب بالتسعيرة . و نحن نذهب الى هذه الدكاكين لأن فيها بضائع كثيرة لا تتوافر عند السويديين . و أن كان السويديون يقدمون الاحترام و الاهتمام و الأدب و الابتسامة . و يحسون الانسان بأنه مالك للمحل . أكتشفت أن هنالك محل جديد يمتلكه مجموعة من الأتراك . و كان من قبل فرع من شركة سويدية ضخمة انتقلت الى خارج المدينة . و صرت اتردد عليه . و اليوم قمت بشراء كمية من لحم البقر و طلبت من اليوغسلافي الجزار العجوز أن يقوم بفرم اللحم . و الرجل قد تخطى السبعين . و هذا يعني انه قد تحصل على معاشة قبل سنين عديدة ، و يعمل بالأسود كعادة الاجانب . و عندما رجعت الى المنزل ، اكتشفت ان الجزار العجوز قد نسيّ ان يفرم اللحم . فرجعت مباشرةً . و لكي لا أتهم بسرقة اللحم ، قلت لشاب تركي يقف بالقرب من الباب أن الجزار قد نسيّ ان يفرم اللحم . و لم يكن الشاب يفهم اي كلمة سويدية . و الشاب الآخر الذي اتى لمساعدته لم يكن يفهم أي لغة سويدية . ثم أتى تركي في الستين من عمره ، و تحدث معي بغضب مستفسراً عن كيف آخذ اللحم الى بيتي و أرجعه مرةً اخرى . فأفهمته بأنني أنا الضحية . فطالبني بالايصال . فقلت له : ( هذا هو الايصال . و لكن لست هنا لكي استبدل معدات الكترونية ، انا اريد ان افرم اللحم الذي اشتريته . و هذه دباجتكم التي توضح السعر و الوزن و التاريخ و الساعة ). فقال لي بصلف و هو يشير الى داخل المحل و هو غضبان : ( اذهب ... اذهب ) . فقلت له : ( انا يا سيدي زبون ، و من المفترض ان اعامل باحترام ) . فكرر كلامه ( اذهب ... اذهب ) و هو اشد غضباً . هنالك مثل سوداني يقول : ( اطلب اهل الفضل أول ، و ما تطلب الفقري بعد اتمول ) . و أغلب اصحاب المحلات اليوم هم من الأجانب ، و المسلمين خاصة . و هؤلاء قد أتو كعمال أو لاجئين . و لقد فتح الله عليهم و كبر رزقهم . و من المفروض ان يحمدوا ربهم كثيراً . و لكنهم يصيرون متغطرسين ( و يا دنيا ما فيك الّا انا ) . و يعمدون الى الغش و التهرب من الضرائب . و يوظفون ابناء بلادهم . و يعطونهم مرتبات قد تكون ثلاثة دولارات في الساعة بدل الثمانية عشر دولار في الساعة و لا يدفعون رسوم مخدم أو ضمانات اجتماعية و رسوم تقاعد للعامل . و يعاملون من يعمل معهم بكل احتقار و قسوة . و من العادة أن يكون يعمل معهم يتلقى اعانة اجتماعية من الدولة و لهذا يقبل بهذا الأجر الهزيل . و هو يخطط ان يكون شريكاً او مالكاً للسوبر ماركت بعد عشرة او عشرين سنة . و سيحتقر و يستغل من يعملون معه . و الشابان اللذان قابلاني في المدخل و لا يتكلمون السويدية ، من المؤكد انهم قد أتوا من خارج البلاد ، و يتلقون اعانة اجتماعية في ألمانيا مثلاً ، و يعملون في السويد . عندما خرجت من ذلك المتجر كنت غاضباً جداً . و لكنّي بدأت افكر في أن الأتراك و العرب ، قد اتوا من مجتمعات يعتبر فيها احترام البشر شئ أقرب الى الكفر . و الأهانة و الصفع و الضرب و الركل جزء من ممارسات السلطة و المخدم و المدرس و يمكن الوالدين و الأهل . و فاقد الشئ لا يعطيه . عندما بدأت عملية الطهي كنت افكر في طبق ايطالي يفضله الجميع . و فجأةً كان هناك ظل شخص طوله يقارب المترين يقف من خلفي . و كان هذا ابني الطيب ( هيرمان) . فسألته عن سبب تواجده المبكر ، كما سألته عن اخيه فقوق نقور الذي في نفس مدرسته و في الصف النهائي في المدرسة الأعدادية و لكن في فصل مختلف . لأن المدرسة من أربعة انهر . و رده كان ، أن الحصص الأخيرة قد الغيت ، لأن المعملة قد طردت من العمل قبل الاجازة الاخيرة . و لم تتمكن المدرسة من ايجاد معلمة لتدريس مادتها . و عندما سألت ابني اذا كانت المدرسة سيئة ؟ . كان رده انها مدرسة مقتدرة و لها خبرة ثلاثين سنة . إلّا انها اخطأت و ان كل الطلاب غاضبين منها و ليس هنالك من يتمنى رجوعها . و عرفت ان الطالبة لبنانية . و لكن هذا لم يمنع الطيب ، و والدته سويدية ، من ان يتعاطف هو و كل الطلاب مع الطالبة اللبنانية المحجبة . فالحق هو الحق ، و قيمة الانسان لا يحددها أصله أو دينه أو عرقه . بالسؤال عن السبب ، عرفت ان المعلمة قد تضايقت من احدى التلميذات المشاغبات ، فذكرتها بشقيقها الذي صار نزيلاً بأحد السجون . و ليس للمعلمة أي حق في ان تقلل من قيمة تلميذ او تلميذة بتذكيرها بمصيبة شقيقها . و أن المدرسة مثل الطبيب ، المحامي ، أو الشرطة . اشترط عليهم منذ بداية تعليمهم عدم افشاء اي سر . و إذا كانت المعلمة قد علمت بمشكلة الأخ المسجون ، فليس لها حق في ان تعلن عن ذلك . و هذا يعني أن المعلمة التي صرفت عليها الدولة ، و كان يمكن ان تكون ناظرة أو مسئولة تعليم ، لا تستحق شرف ان تكون معلمة . و قامت ادارة المدرسة و مكتب التعليم بالأعتزار الى اسرة الطالبة . و بدأت افكر في صاحب السوبرماركت التركي . و صلفه و جلافته . و كنت أقول لنفسي أن الاسكندنافيين قد بلغوا ما بلغوا من تحضر و رقي لأنهم يحترمون الفرد و يجعلونه يحس انه الكل في الكل . و عرفت ان الطالبة لبنانية . و لكن هذا لم يمنع الطيب ، و والدته سويدية ، من ان يتعاطف هو و كل الطلاب مع الطالبة اللبنانية المحجبة . فالحق هو الحق ، و قيمة الانسان لا يحددها أصله أو دينه أو عرقه . بعض اخوتنا الكبار ممن حاربوا في فلسطين و كنّا نستمع لهم ، امثال الأخ خضر فرج الله و موسى فضل المولى و أحمد عبد الفراج ( قدوم زعلان ) رحمة الله عليهم . كانوا يتحدثون عن تعرض الجندي العربي ، خاصة المصريين ، للصفع و الركل و الجلد بالخيزرانة بواسطة الظباط المصريين . و حكى لنا الأخ خضر فرج الله أن طائرة اسرائيلية قد اغارت عليهم في العريش ، و لم تسقطها المدفعية المصرية . فأنهال الظابط على الطبجية جلداً بالخيزرانة . و بعد ايام ظهرت طائرة عند الافق اسقطها المصريون بطلقة واحدة ، و كانت تابعة للأمم المتحدة . خضر فرج الله رحمة الله عليه كان يقول لنا ، أنهم كانوا يضحكون على المصرين و يقولون لهم يا اولاد ال ..... خايفين من الخيزرانة ، ضربتوا طيارة الاممالمتحدة بطلقة واحدة . و في كتاب هيكل العروش و الجيوش ، اشار الى اسقاط طائرة الاممالمتحدة في العريش . الجنود السودانيون كان يقولون ان الآخرين يستغربون للود و الاحترام الذي يجده الجندي السوداني من الظباط . حتى من قائدهم البطل العم زاهر سرور الساداتي . الذي رفض ان تعالج جروحه عندما وقعوا في الأسر قبل معالجة جنوده . و مكث تسعة شهور في الأسر و رصاصتان يسكنان جسمه . قديماً كان المواطن السوداني يجد كل الأحترام و الأهتمام من المسئولين . و حكي لي الدكتور محمد محجوب عثمان رحمة الله عليه عندما كان محكوماً عليه بالمؤبد بسجن كوبر بسبب مشاركته في انقلاب علي حامد و عبد البديع ، أن عسكري سجون طرد من الخدمة بعد اثنا عشرة سنة ، لأنه قد صفع مسجوناً جنائياً . و قالوا له : ( أين وجدت هذا الحق في اللوائح التي درسناها لك ؟ ) . و كان هذا في زمن السودان الزين ، و كان العم الصادق الطيب مديراً للسجون . أو موسى نوري والد لاعب الكورة التقر في الخمسينات و الاستاذ نوري موسى نوري . و كان آخر هؤلاء العظماء مدير السجون قبل الأنقاذ ، الاخ بشير مالك بشير . الذي يعمل الآن في الامارات ، كان يقول في كل المحافل و على رؤوس الاشهاد : ( السجن ليس لعقاب البشر ، و لكن لأصلاحهم ) . التحية ع. س. شوقي بدري .