قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    الجيش ينفذ عمليات إنزال جوي للإمدادات العسكرية بالفاشر    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالفيديو.. تاجر خشب سوداني يرمي أموال "طائلة" من النقطة على الفنانة مرورة الدولية وهو "متربع" على "كرسي" جوار المسرح وساخرون: (دا الكلام الجاب لينا الحرب والضرب وبيوت تنخرب)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    عصار تكرم عصام الدحيش بمهرجان كبير عصر الغد    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان: عُري ورَجْم وجوع.. في بلد 'لحْس الكوع'..
نشر في الراكوبة يوم 21 - 11 - 2012


'اسمك محمود اسماعيل عبدالفضيل؟
نعم.
سوداني ولاَّ مصري؟
مصري.
أنتَ ممنوع من دخول السودان'..
لم أنتبه لرائحةِ المسك التي تفوح من مكتب الضابط الأشيب في البداية، لكنني لم أستطع أن أفهمه وهو يتكلم، بينما تتألق على كتفيه رُتب مُدهشة الأشكالِ والألوان، ستكون أول ما يلمع أمام عيني، أنا الغريب الذي يدخل السودان للمرة الأولى.
على أبواب مطار الخرطوم، شعرتُ باطمئنان نادر، كنت أمام رجل طيب القلب، سوف يسمح لي بدخول السودان، على أنني صحفي مصري في جواز السفر وبطاقة الهوية، رغم أنه يتشكك في هيئتي السودانية الخالصة، التي ورثتُها لحسنِ الحظِّ عن أبي.
كنتُ أعرفُ أن جدودي ولدِوا في مكانٍ ما، بالقرب من هذا المطار، وأن أغلب هؤلاء الذين يتحرَّكون أمامي رجالاً ونساء هم محض أبناء وبنات العم، لدرجة أنني اكتشفتُ، وأنا أجول بنظري في شوارع المدينة، أن أشباهاً كثيرين لي في هذا البلد البسيط، يبتسمون لي من صورهم المعلقة بأحجام كبيرة على الجدران، فقد كانوا مرشحين في الانتخابات السودانية، التي جرت وقائعها مطلع أبريل من العام 2010، وفاز فيها الرئيس الحالي عمر البشير وحزبه وأعوانه، وقد جئتُ إلى هنا خصيصاً، مراسلاً لمجلة 'الإذاعة والتليفزيون' الأسبوعية، لتغطية الحدث، المُفترض أن يكون الأهم والأفدح في تاريخ هذا البلد، فإذا بي أكتشف أن الناسَ وحيواتهم في العالم الثالث على الأقل أكثر فداحةً من أيِّ حدث آخر.
كانت علاقة السودانيين بالمصريين قد تآكلت تماماً، في أواخر عهد الرئيس السابق حسني مبارك، وربما بقرار منه، في صورة بشعة للتفكك الاجتماعي الذي وصل إلى مرحلة التحلل، فمصر والسودان اللذان ظلا شعباً واحداً لقرون طويلة، باتا لا يعرفان شيئا عن بعضهما، بل ويخضع الشعبان لدعاية مؤسفة عامرة بالعداء تصدِّرها أجهزة إعلام في البلدين، في أبشع حملة منظمة يديرها إعلام 'دولتين' ضدَّ أهلهما، كنتُ وهذا اعتراف مني بذلك أحد ضحاياها الأشقياء، فقد وقعت في الفخ من اللحظات الأولى في هذا البلد.
أول سائق تاكسي جبتُ معه رحلتي الأولى في الخرطوم، انفجر ضاحكاً بمجرد أن سألته إن كان سيدلي بصوته في الانتخابات أم لا، وبعد قهقهةٍ عاليةٍ سحب نفساً عميقاً وهو يمسح دموعه، وقال:
'عادل إمام مو قالها عنديكم في المسرحية يا زول، ما في زعيم بيموت'.
على الرغم من أن الفقر والجوع والأمراض سريعة الحركة جداً في السودان، إلا أن كل شيء عدا ذلك، هاديء وبطيء، في الشمال كما في الجنوب، وقد كانا بلداً واحداً خلال هذه الزيارة، يتشابه تماماً، في القرى الكثيرة، كما في المدن القليلة المُتباعدة، بحيث يبدو للغريب، حقاً أن لا ضرورة لكل ما يبتدعه السياسيون من حروب، هنا المسلمون والمسيحيون وأبناء الأديان الأفريقية الموصوفة بال'الوثنية'، كلهم يجلسون على الأرض يأكلون الطعام نفسه ويتحدثون اللغة نفسها ويحيطهم الجوع ذاته، والشمسُ تحرقهم جميعاً بأكبرِ قدرٍ من العدالة، ورغم ذلك حين جاءتهم الحرب، استمرت ربعَ قرن من السنوات الضائعة.
استلمتُ شريحة هاتف 'سوداني' هديَّة من السفارة المصرية، واتجهت متعباً من رحلة طيران استمرت ساعتين إلى الفندق، غفوتُ لساعات غير معلومة وحين فتحت عيني كان الليل قد غافل الجميع هنا، وبدأ من دون أن يستأذنهم، وكان عليَّ أن ألحق في التاسعة مساء آخر بائع سجائر وآخر تاجر 'كروت' للهاتف 'السوداني'، لأكلِّم أسرتي في القاهرة، هرولتُ سريعاً إلى الشارع قبل أن أتمكَّن حتى من فتح عيني، وأنا أجري اكتشفتُ أنها الطريقة المُثلى للتعرف إلى شخصية الخرطوم الليلية، وهي أكثر قسوة منها في النهار 'تحت الشمس'، ففي الليل يتلاشى البشر والعرباتُ والدكاكين، فجأةً، من الشوارع، كأنَّ أحدهم مسَّها بعصاه، فثبَّتها كشوارع أشباحٍ تمرق في الليل بسرعة، وسط الظلام الطويل الذي تعيشه السودان، بعدما كانت مشروع قلعة من قلاع المدنية و'التقدمية'، في الوطن العربي، لكنها اليوم بالتحديد، وأنا أجري مفزوعاً لسبب لم أعد أفهمه، باتتْ خيمة بائسة في صحراء تحكمها دولة ترفع شعارات إسلامية مُفجِعة، كلما وضعتها الأقدار في اختبار حقيقي أمام الجماهير.
هرولتُ خلف أشباحي في السودان، وقد ظلوا يبتسمون بنفس الوتيرة وأنا أخوض معركة الشراء الأخيرة، من دون أن أصل إلى بائع سجائر، ابتعتُ كارتاً لأكلِّم القاهرة، وعدتُ مفزوعاً إلى الفندق، شعرتُ بالجوع فأكلت وجبة العشاء، المرصَّعة بطبق من الفول بالطماطم، دستُ على زرار التليفزيون، فرد عليَّ بوصلة نفاق جماعي، لحزب الرئيس عمر البشير، في النشرة والتقرير الإخباري وعلى ألسنة الضيوف وفي استطلاعات الرأي، أعقبتها فقرة توعية بضرورة الذهاب إلى الصندوق للإدلاء بصوتك 'يا زول'، مددتُ يدي لألتقط كوب الشاي ففجعتني روائح عطور مدهشة، صرختُ في الهاتف فجاءني شاي: 'مِصري سادة'، شربته مغتاظاً ونمت.
في الصباح تخبطت ثانية بين الأخبار في عدة صحف، كان من المستحيل تقريباً فهم كثير من التناقضات في هذه الانتخابات، التقيتُ الصديقة الإعلامية السودانية النابهة 'رفيدة ياسين' سألتها فأعربت عن دهشتها من صعوبة إجراءات التصويت على الناخب المُتعلم، فما بالك بغير المتعلمين، وهم الأغلبية، حيث تتضمن اختيار رئيس جمهورية الشمال ورئيس جمهورية الجنوب، ويستخدم الناخب في دوائر شمال السودان ثماني بطاقات انتخابية، لمنصب رئيس الجمهورية، والوالي، وثلاث بطاقات لكل من البرلمان القومي، والبرلمان المحلي، يُضاف إليها أربع بطاقات في الجنوب لرئيس حكومة الجنوب وبرلمانه، ما دفع الكثيرين لترك مراكز الاقتراع بعد يأسهم من الحصول على أسمائهم في الكشوف، أحد المرشحين قابلني مذعوراً في اليوم الأول، لأن اسمه ليس موجوداً أصلاً في كشوف الناخبين.
نعم، كانت السودان تغلي، مثل برادات الشاي الهائلة المنتشرة في الشوارع، تحت كل أشجار الخرطوم تقريباً، بعض الرجال يجلسون وهم يتذوقون باستمتاع، وامرأة عجوز تجلس بين أنواع فوَّاحة من العطور، تضيفها إلى كوب الشاي،
لتكون هي 'ستَ الشاي'.
الناس تتكلم بصوت مسموع في المواصلات العامة، في عربات الميكروباص 'المزرية' التي أسمتها حكومة البشير 'أمجاد'، عن ارتفاع سعر 'البصل' إلى مستويات غير مسبوقة، بسبب فساد ليس بعيداً عن مُتناول الرئيس، صدِّقوني وسط كل ذلك، اكتشفتُ أنك لن تستطيعَ أن تفهمَ مصر، ما لم تُحط علماً بما يجري هناك، في بطنها الواسع، المعروف بين الناس مَجازاً باسم 'السودان'.
رأيت بطن السودان الجافة والقاحلة، وأنا معلق من شباك طائرة صغيرة، في الطريق إلى الجنوب، رغم ذلك، تبدو طبقَ الفاكهة الرئيسي بالنسبة لعدة قوى إقليمية ودولية، العالم كله يتابع نبضَ الانتخابات التي تجري في السودان، من زاوية مصالحه الخاصة، 'مستر كارتر' بشحمه ولحمه جاء إلى هنا، بعينيه العجوزتين اللتين تشعَّان ألقاً لمَّاعاً، في بهو الفندق الفاخر، الذي بناه الديكتاتور الليبي المقبور معمر القذافي، مكان حديقة حيوان السودان، وسمَّاه: 'فندق الفاتح'، بينما كانت الانتخابات تشهد عمليات تزوير مُقننة، في الشارع سيقول عنها السيد من الولايات المتحدة، والذي لم يغادر غرفة الفندق إلا للادلاء بتصريحات في البهو المكيف واللامع: 'لا شك أن الانتخابات السودانية كانت نزيهة'.
صديقي السوداني الأصل الصحفي في جريدة 'الشروق' المصرية 'هيثم نوري' كان أحد أهم البوابات المبكرة التي أطلعتني عن قرب على خريطة السودان، لا لأنه يعمل على رسالة الدكتوراه في الجغرافيا السياسية، بل لأنه أحد أهم مثقفي الشأن السوداني والأفريقي، نشأ مع أبيه في الخرطوم وتخرج في جامعتها، لكنه كان سيصل بعدي بيومين من القاهرة، لتغطية الحدث لجريدته، فكنت أنا المصري الأصل الذي يستقبله في مطار الخرطوم بجلباب سوداني، ويصطحبه إلى الفندق، دليلاً لا يطوله الشك على صدق سودانيتَّي وعمق مصريته.
في اليوم التالي، جاءت كل القنوات التليفزيونية إلى الخرطوم، تعرَّفت إلى فريق إعلاميين من التليفزيون المصري، وصحفيين من صحف مصرية مستقلة وأسبوعية، وكانت فرصة هائلة للالتقاء بعدد من أعز الأصدقاء، الصحفي بجريدة 'الإمارات اليوم' خالد محمود، ابن جريدة 'الأسبوع' المصرية، وبينما كنت أمر بالمصادفة بجوار مبنى الإعلام الحكومي، في الخرطوم سمعتُ مصرياً يهزأ بلهجة غريبة، وحين التفتُ إليه، قلت:
'مين؟ ملك ملوك شبرا'..
تصافحنا أنا ومراسل قناة 'روسيا اليوم' صديقي الكاتب والمُترجم أشرف الصبَّاغ بشغف صديقين، تعجبنا لأن الدنيا التي لم تسمح عشرة أعوام باللقاء في مصر، تتيح الفرصة هكذا في السودان؟'.
خرجنا من بيت الزعيم السوداني الصادق المهدي إلى الفندق تناولنا الغداء سريعاً، أشرف يعد رسالة للقناة بعدها نلتقي مساء لنجرِّب العرقي، قلت إن صديقاً وعدني بشراء 'العرقي السوداني'، من بيت جنوبي في حي شعبي بالخرطوم، اشترط علي أن أحملها بيدي إلى حيث أريد، لأنه كمواطن سوداني مسلم قد تكلفه مغامرة مثل تلك ثمانين جلدة، أبديت رغبتي في الحصول على الثمانين جلدة عن طيب خاطر، فاندهش وقال: 'أوك'.
الأحياء الفقيرة في العالم متشابهة البيوت والبشر، مهما اختلفت ألوان الناس وأجناسهم، مدن شعبية فقيرة من دور واحد فقط، الأرض أمام البيوت تمتليء بالأطفال الرضَّع، بالكاد يقفون على أقدامهم الناعمة، من دون ملابس تقريباً، يستقبلون حياة خشنة ومفجعة بلحم أبدانهم، دخلنا البيت، بينما كان الطفل يصنع من كرسي مكسور عربة تمشي على الأرض، استقبلتنا امرأة سمينة، نظرت إلى الطريق لتتأكد أن أحداً لا يتتبعنا، ثم ابتسمت وحصلت على الجنيهات وعادت بعد دقائق من الداخل تحمل كيسين كبيرين فيهما زجاجات مياه محملة بالعرق، ملفوفة بعناية وتختفي في كيس أسود، حملتها مبهوراً وركبت مع صديقي سيارة أجرة، ساعتها بالضبط كان الطفل قد سقط وبدأ يبكي، وكان صوته مسموعاً حتى ابتعدت السيارة عن الشوارع الفقيرة، إلى أن وصلت الفندق بسلام.
السودان كله تقريباً محضُ بلدٍ جائع ومهزوم قسَّمته الحروب، الجنوب ذو الأغلبية المسيحية، والشمال ذو الأغلبية المُسلمة، حيث طبَّق الرجل الذي في الخرطوم ما يعتقد أنها الشريعة، خصوصاً أنها هي أيضاً التي أبقته في الحكم عقوداً، وهي 'بارك الله له فيها' التي لم تمنعه حتى عن سجن شريكه في الانقلاب، الشيخ حسن الترابي عدة مرات، وربما كانت هي 'الشريعة' التي زينت له التورُّط في جرائم حرب في دارفور، حتى تحرَّكت ضده 'المحكمة الجنائية الدولية'، التي يرأسها أوكامبو، المُلقب بين أتباع الرئيس في الخرطوم ب 'الشيطان الكافر'.
يتداول السودانيون الطيبون، عن آداء الرئيس المؤمن، حكايات طريفة، منها أن جماعة ذهبت إليه، تطالبه بتسديد الرواتب، المتأخِّرة منذ ستة شهور، فظل الرئيس يخطب فيهم خطباً دينية عصماء، 'وهي من أهم شروط الرؤساء الذين يطبِّقون الشريعة' فقاطعوه غاضبين، وحين هدءوا قليلاً قال لهم:
' يا اخوانا.. أنا أكلمكم في ربنا والآخرة، وأنتم تكلموني في الدنيا؟' المُدهش حقاً، أن الجوع في البلاد التي تطبق الشريعة، لا يمكن إلا أن يكون كافراً، ولذلك لا يستطيع أن يفرق بين الشمال المُسلم أو الجنوب المسيحي، أو بين بشرة سوداء لامعة وأخرى سوداء 'غير لامعة'، وبينما فرَّط البشير في الجزء الغني من بلاده، نظير ألا يقاسمه أحدهم السلطة، خسر 'قروش البترول' الجنوبي، ولم يبق سوى ترسيم الحدود، ويكون طبيعياً أن يبقى الخلاف بين المتنازعيْن المسلم، الذي يطبق الشريعة، والمسيحي الذي يريد أن يرضي ربه هو الآخر منصَّباً على عدة حقول نفط في 'أبيي'، التي تقع ملتبسة بين الشمال والجنوب، وهنا تبرز أهم مزايا تطبيق الشريعة، فهي من ناحية تعطي الحاكم تصريحاً إلاهياً بالاستيلاء على السلطة لعقود، بعد مداعبة المجتمع الدولي بانتخابات كاريكاتورية، كل عدة سنوات، وهي من ناحية أخرى، تفوِّضه في الاستيلاء على حقول نفط الجنوب، الذي أصبح من وجهة نظر الحكم الإسلامي الرشيد 'عدواً كافراً'، إنها الشريعة 'المطاطة' و'المُريحة' للحاكم الفرد، الذي يجد نفسه بعد سنوات قليلة من تطبيقها، مُفوَّضاً من الله، وساعتها، لن يمكن التخلص منه إلا 'بأمر من الله'.
في السودان، حين رأيتَ الجوع والعطش والبطالة مُغطاة بتطبيق الشريعة وآيات القرآن والأحاديث الشريفة والقدسية، ورأيت مراكز تحفيظ القرآن أكثر عدداً من 'المخابز'، حمدتُ الله لأنني ولدت في مصر، ففي هذا الوقت كان الرئيس المصري السابق، يدخل عامه الثلاثين في الحكم، مستعملاً القبضة الحديدية لوزير داخليته، حبيب العادلي، وبينما كان قمع الرأي العام واحداً من أجل الحفاظ على السلطة، في البلدين 'الشقيقين'، كان تكبيل الحريات في السودان، وصل إلى حد الجنون، حيث القمع في الخرطوم كالماء والهواء، وتخيلت الحاكم بأمر الله، الذي حرَّم أكل الملوخية، لأسباب لا تزال مجهولة، وأمر أن يعمل الناس ليلاً ويناموا نهاراً، ولعله كان يستند هو الآخر الله أعلم إلى الشريعة نفسها.
تخيلوا، حرم تطبيق الشريعة، الملايين من المشي على كورنيش النيل، نهاراً أوليلاً، لأنها تمنع الرجل من اصطحاب امرأة بالغة في الشارع، لأن هناك من يستوقفك ليسألك عما يثبت أنها أمك أو أختك أو زوجتك، وإلا فقد تكون عرضة للجَلد.
المواطنة السودانية لبنى حسين، الموظفة في الأمم المتحدة، عانت من التنكيل لأنها ارتدت 'بنطلون' في السودان، حيث اعتقلتها الشرطة العام 2009، حين كانت تمشي في الشارع في وقت متأخر من الليل '11 مساء'.
هنا، وبينما أنت في طريقك إلى المطار، سيستوقفك تجمع أفراد خائفين، بينهم أطفال في أحد الشوارع، سيكون بإمكانك أن ترحل في طائرة حان موعدها، أو أن تتوقف لترى 'الخرطوم' في مشهد أخير، الفتاة السمراء الفقيرة تُجلد في الشارع بمنتهى القسوة والبساطة، لكي يشهد عذابها طائفة من الناس، ويكون عليك وأنت الغريب أن تقاوِم البكاء وقلة الحيلة، بأن تتحول إلى حيوان مذعور، وأنتَ ترى فتاة فقيرةً تُجلد أمام الناس، بينما تستعطف جلادها بكل مذلة أن يترفَّق بها، لأن أحدَ الجنود اعتقد أنها ارتكبت جريمة، بسبب ملابسها، ساعتها فقط ستتذكر أمك وأختك وزوجتك معاً، وستلعن الطريقة التي يطبِّقون بها هذه الشريعة، هنا للأسف في السودان 'الشمالي'.
الجنوب
يبدو الجوع سافراً كلما اتجهت جنوباً، هذا ما فكرت فيه، وأنا على الطائرة الخاصة للمرشح على منصب رئيس جمهورية الجنوب دكتور لام أكول، كنا في الطريق إلى مناطق انتشار قبيلة الشُلك، في ولاية أعالي النيل، وهي المناطق التي يمتد فيها نفوذ مرشحنا، علماً بأنها تمثل أقلية في العدد أمام قبيلة 'الدنجا' التي يمثلها الرئيس سيلفيا كير ميارديت، والذي كانت تلك أول أنتخابات يُدلي فيها بصوته طوال حياته، وبعد ساعتين من الطيران فوق الأراضي البور، هبطنا إلى أرض الأجداد..
Welcome welcom Dr lam
كانت تلك أول كلمات نسمعها بعد خفوت صوت الطائرة، أنا واسماعيل دومينيك، الصحفي الجنوبي المسلم في صحيفة 'الرائد' السودانية، وعدد من الصحفيين والمرشح الرئاسي ورجال أمنه وسط عشرات من الأطفال والنساء والرجال والبقر والماشية التي تجري باندفاع نحونا، صراخ وموسيقى وأصوات أطفال متداخلة مع التراب المتصاعد والأفق المفتوح على مساحات خضراء معدودة، وسط الصحاري القاحلة، التي تقطعها أكواخ قبائل تبدو كأنَّها وبكل أسف تضم أناساً لم تهبط حتىَّ لتوِّها من فوق الأشجار.
أحسستُ بألم في معدتي فسألت اسماعيل، إن كان هناك حمَّام في البيت الذي سنقضي فيه ليلتنا الوحيدة في الجنوب، وفق ما فهمته من الزميل الذي تنازل لي عن مكانه في الطائرة، مؤكداً أنني سأجد في الجنوب الكثير الذي يجب أن يُقال، سألته ثانية لكنه لم يرد، كان ملتاعاً من صحفي مصري هش إلى هذا الحد، يخشى ألا يجد دورة مياه في مكان سيخرج منه بعمل صحفي كبير.
نزلنا في بيت محافظ 'الناصر' الذي اكتشفتُ فيه قبل فيلم 'المليونير المتشرد' أبشع حمَّام في التاريخ، وفهمت إلى أي حد كان اسماعيل محقاً في تصوره عني، لأنني في الحقيقة كنتُ أمام واحدة من أبشع صور الإنسانية المُعذبة، على وجه الأرض.
الحشود تتحرك حولنا بحماس، ونحن بينها نذوب، الكل تحت وقع الخطى والتراب والأنفاس اللاهثة يمكن أن يذوب، الحديد الذي عُلقت عليه الصور في الميدان الفقير، المعد على عجل لخطبة المرشح الرئاسي، كاد أيضاً أن يذوب، ورغم الحرارة الهائلة في الجو هتفت الجماهير وهللت، من دون أن تتوقع أن يخسر هذا الزعيم الانتخابات، وبفارقٍ كبير.
في المساء اكتشفتُ أول حقيقة عارية، أننا وسط مدينة من العشش يسمونها 'قُطيَّة' والجمع 'قطاطي'، أما السوق الوحيد والفقير جداً فلا يمكن أن تعرف فيه الصيدلية من محل بيع الخمور، لأنها جميعاً عشش من صفيح ساخن، تذكرت أنني لم أحصل على أي قدر من التطعيمات، تجدد الألم في معدتي لكنني كنت مشغولاً عنه بالصدمة.
كنت مروَّعاً من هول أن أنام تحت سطوة الطبيعة، التي تستطيع أن تتحرش بك، وتعلِّم عليه، الطعام الفاخر لضيوف الرئيس 'المحتمل' سمك ولحم ضأن، يقدِّم في صواني بُذلت جهود كي لا تكون قذرة مطبوخ بكثير من البصل، ويؤدي مباشرة إلى النوم، وفقاً لقوانين الحشرات التي تتطفَّل على النائمين، والنائمون لا يجب أن يزعجوا أنفسهم من مثل هكذا تحرش، لأن النوم داخل البيوت، هو المُضاجعة الكاملة مع الموت.
زجاجة مياه الشرب الصالحة هنا شحيحة للغاية، ثمنها أغلى من ثمن زجاجة البيرة، التي تباع واردة من كينيا، قرب مياه نهر 'الصوبات' يستحم الجميع نساء ورجالاً عرايا كل صباح، بعضهم خلف مركب مائل على الشط، وبعضهم يبدو كشجرة سمراء، تعوَّدت أن تستريحَ بمفردها في العراء.
الكهرباء أيضاً محدودة للغاية، المُولد يعمل لساعتين فقط في اليوم، من الثامنة إلى العاشرة مساء، ليغزي الدائرة المحيطة ببيت المحافظ، وبعدها يكون البعوض بدأ ينشط في الحركة خارج العشش الملتهبة، ويكون على الناس أن تنام هكذا في سُبات عميق، بينما يصرخ فيَّ اسماعيل دومينيك وهو ينظر إلى النجوم في السماء:
'كأنَّ السيارة عطلت بك في البراري يا زول'..
تمدد الرجال في حوش المنزل، الطيار السوداني والصحفيون، دون أن يتململ منهم أحد، رغم سرب الحشرات التي تقف على الملابس والبشرة كأنها تتحسس نفسها، في جسدك، وحين تهشها تبدو كأنها تنزع نفسها عنك نزعاً، أدهشتني فكرة أن تحوِّلك حشرةٌ لا حول لها ولا قوة في السودان إلى مَمسحة.
في الصباح، ركبنا الطائرة من 'الناصر' في ولاية أعالي النيل' متجهين إلى 'ملكال' و'الأبيض'، لنعود منها إلى الخرطوم، سلمنا على البسطاء الذين كان من شروط استضافتهم لنا أن يبيتوا في العراء، تحت الأشجار، سألت فقيل إنها من أهم علامات الكرم عندهم، كان الوقت صباحاً، حيث لا شيء يمكن أن يُخجل المرء من عُريه، وحيث لا يترك الفقر وقتاً للخجل، نظرت من الطائرة وكان بإمكاني أن أرى امرأة تستحم عاريةً إلى جوار رجل، في نهر 'الصوبات'.
القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.