كثيرٌ من أهل الحكم وأباطرة السياسة والزعماء والمثقفين في السودان يعتبرون القوات المسلَّحة مثلها مثل أي قطاع من قطاعات الدولة أو مؤسَّسة من مؤسَّساتها يمكن حلُّها في أي وقت والاستغناء عنها أو استبدالها بأي عناصر أخرى. ولا يتورَّع مثل هؤلاء من الإساءة إليها أو التهكُّم عليها أو التحريض على معاقبتها أو التهديد بحرمانها من استحقاقاتها ومخصَّصاتها الماليَّة ومرتَّباتها التي يعيش عليها أفرادُها.. { هذا الجندي المقاتل المُفترَى عليه نراه في رضاء تام وإيمان بوطنه وعقيدته وقوميَّته وهو يحمل روحه على كفِّه ويخرج ليدافع عن الأرض والعِرض والعقيدة والإنسان والمال ومقدرات الأمَّة، نجده يسهر بين الأحراش وتحت المطر وفوق الحجر لينعم الآخرون والناس من وطنه كلهم بالأمان والاطمئنان إلى النفس والمال والولد، ويعيش على الكفاف من المخصَّصات ولا يتذمَّر أو يُضرِب عن واجبه. { من قبل استقلال السودان ونيل حريته تتحمَّل القوات المسلحة في الميدان وليس غيرها عبء الدفاع عن الوطن وحماية أراضيه ولا يحتاج الناس للتذكير بدورها في استقلال السودان ونيل حُرِّيَّته. إذاً ما هو السبب وراء تلك المواقف السالبة والعداء للقوات المسلحة؟ { البعضُ منهم يحمِّل القوات المسلَّحة وقادتها مسؤولية عدم استقرار الحكم وتعدِّيها عليه بالانقلاب على الحكم الديمقراطي والاستيلاء على السلطة، وأطلقوا على ذلك «الدائرة الخبيثة، أو دورة الحكم بين ديمقراطية ودكتاتورية» وربما كان هذا هو السبب في كراهيتهم لها. { والبعض منهم يرى أن القوات المسلَّحة لا ضرورة لها ويمكن الاستغناء عنها والاكتفاء بالمجاهدين والدفاع الشعبي يتم استنفارهم متى ما كان هنالك مهدِّد. { أولاً نذكِّر القارئ الكريم والجيل الجديد أنَّ القوات المسلحة كمؤسَّسة تحت قيادة معيَّنة بموجب قانون القوات المسلَّحة والدستور لم تقم في تاريخها بالاستيلاء على السلطة أو التخطيط مع أي جهة للاستيلاء عليها. وإذا نظرنا إلى فترات الحكم التي يُطلق عليها (حكم عسكري) نجد الآتي: في عهد الفريق إبراهيم عبود طلبت القيادة السياسيَّة الحاكمة من المؤسَّسة العسكريَّة استخدام السُّلطة نتيجة لاختلافات سياسيَّة يرى رئيس الوزراء أنَّها في الطريق إلى تهديد الأمن القومي وهذا ما وثَّقته المذكِّرات والتحقيقات. وفي عهد الرئيس المشير جعفر نميري الذي يُطلق عليه الحكم العسكري الثاني لم يكن للقوات المسلَّحة بقيادتها الشرعيَّة وقاعدتها من دور في الاستيلاء على السُّلطة إذ قامت مجموعة من الضبَّاط الأحرار ذات انتماءات تقدُّميَّة وعقائديَّة وقوميَّة عربيَّة ويساريَّة بسند من الحزب الشيوعي السوداني، نتيجة لطرده من البرلمان بواسطة القوى السياسيَّة الأخرى، بالاستيلاء على السلطة، وقد كانت القوى السياسيَّة والحكومة مشغولة بصراعاتها على السلطة حتى وصل الأمر في الجنوب إلى وضعٍ مهدِّد للأمن القومي نتيجة لانتشار التمرُّد. تم الاستيلاء على السُّلطة وكان الانقلاب بقيادة العقيد الركن جعفر محمد نميري وقتها، ومجموعة من الضباط الأحرار، وبعض أعضاء الحزب الشيوعي، وتم تشكيل الحكومة برئاسة مولانا بابكر عوض رئيساً للوزراء ومجلس للوزراء كان معظمُهُ من اليسار... إذًا فإن القوات المسلَّحة كمؤسَّسة غير مسؤولة عمّا حدث. { جاءت الديمقراطية الثالثة بعد سقوط مايو ولم يُحسن، أهل الديمقراطية «الأحزاب» كما يدَّعون، لم يُحسنوا ممارسة الديمقراطيَّة وتهكَّم بعضُهم على القوات المسلَّحة وأساءوا لها ولم يهتمُّوا باحتياجاتها وهي تقاتل التمرُّد. بل ذهبت بعضُ قوى اليسار تدعم الحركة الشعبيَّة وتساندها وتروِّج لأخبارها الشيء الذي أدَّى إلى انتظام قادة القوات المسلَّحة وضباطها في تنظيمات لإطاحة السُّلطة عندما لم تستجِب القيادة العسكريَّة لنداءات الضباط والجنود بالاستيلاء على السُّلطة قامت الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة بكامل قيادتها السياسيَّة وتنظيمها العسكري داخل القوات المسلحة بانتهاز الفرصة واستولت على السُّلطة وأطاحت النظام الديمقراطي الضعيف في ذلك الوقت وعزلت القيادة العسكريَّة التي كانت قائمة ومعظم قادة الوحدات والأفرع والقيادات والأسلحة. إذًا فإنَّ القوات المسلَّحة غير مسؤولة أيضاً عن استيلاء الإسلاميين على السلطة ولم يكن لها دور مؤسسي في تنفيذ الانقلاب. نخلص من ذلك أنَّ الدائرة الخبيثة في نظام الحكم، التي تتحدَّث عنها الأحزاب السياسيَّة، وأنَّ القوات المسلحة هي السبب في ذلك، اتهام غير صحيح بُنيت عليه كثيرٌ من المواقف السالبة ضد القوات المسلَّحة واتهامات باطلة وكراهية لها من بعض القوى السياسيَّة وصلت إلى حد التربُّص بها والعداء لها لم تسلم منه بعضُ قيادات الإنقاذ. في وثيقة «الفجر الجديد» التي وقَّعت عليها مجموعة من الأحزاب وكان وراء تصميمها وإعدادها مجموعة من أحزاب اليسار وعلى رأسهم قيادات قطاع الشمال، ورد فيها بند عن القوات المسلحة وكيف سيتم تكوينها من عناصر الحركات المتمرِّدة المقاتلة بعد أن يتم تسريح الجيش السوداني العريق واستبداله بالقوات الجديدة. هذا يؤكِّد كراهية هذه الأحزاب وخاصَّةً أحزاب اليسار منها للقوات المسلحة وعُقدتهم منها بأنها تقوم بالانقلابات وتطيح الحكومات الديمقراطيَّة مع أنَّ القوات المسلحة لم يأتِ دورُها حتى الآن كمؤسسة بكامل هيئتها، ولماذا لا يأتي يوماً؟؟ كتبنا من قبل في هذه الصحيفة عن الإساءة التي وردت في مقالات الأستاذ الحاج وراق وعن اتهاماته الباطلة لها بأنَّ قادتها وجنودها يتعلمون دقَّة الرماية في بطون الحوامل من نساء الجنوب وغير ذلك كثير ولم يسلم قلم الأستاذ عووضة من الإساءة للقوات المسلحة وغيرهم كثر. ربما نجد العذر لهؤلاء ولكن نستغرب كراهية حزب المؤتمر الشعبي للقوات المسلحة ورأيهم فيها، وكانت البداية من الدكتور حسن الترابي الذي كان يرى عدم ضرورة لها ويمكن استبدالها بالمجاهدين والدفاع الشعبي متى ما كان هنالك عداء على الوطن، وهكذا سارت حملة قيادات الشعبي ضد القوات المسلحة ولن أنسى تلك الندوة في مركز دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا التي كال فيها أحد قيادات الشعبي بمكيال ثقيل السباب والشتائم لقادة وضباط القوات المسلحة أمام حضور مميَّز وهو يحمل درجة الدكتوراه! ده كله كوم وقد علَّقنا عليه بأن «كل إناء بما فيه ينضح».. أما أن يأتي قيادي من المؤتمر الوطني ويهدِّد بإيقاف تغذية الفصل الأول «مرتبات» القوات المسلحة، فهذا كوم كبير خلاص!! هو ذاته الفصل الأول بتاع المرتبات شن طعمه؟ { مقال رصين بقلم العميد محمد عجيب تناول الموضوع بعمق وبأدب رفيع نُشر في صحيفة القوات المسلحة و«الإنتباهة» يوم الأربعاء الفائت أرجو أن يقرأه قيادات المؤتمر الوطني ومسؤولوها؛ لأنه سيكون مفيدًا لهم وأنا ألمس فيه وبين سطوره رأيًا عامًا!؟. وجاء في مقاله عبارة عميقة المعنى والدلالة تُقرأ: «القوات المسلحة التي تحمي الوطن تتطلع لوطن يحمي فصلها الأول» إ. ه. كان الجندي يتطلَّع لشهر مارس الحزين لتطبيق زيادة الأجور علَّها تُشبع أفواهًا جائعة ولكن بدلاً من ذلك جاء البعض يتربَّص بالفصل الأول (مرتبات)!! أيها الناس ما بالكم كيف تحكمون، وهل تنسَون أن للقوات المسلحة دورًا يُنتظر طال الزمن أم قصُر؟ أم أنَّكم تريدون التعجيل به؟ اتركوا فصل القوات المسلحة وابحثوا عن فصل آخر فالوضع العام لا يحتمل.