تمكن الوسطاء الدوليون والإقليميون أمس، من فك الاختناق الذي ظلت تعيشه دولة الجنوب منذ ميلادها، وذلك بعد التوقيع على تنفيذ مصفوفة اتفاقيات التعاون بين الخرطوموجوبا. فور التوقيع على المصفوفة خرج الوسيط الإفريقي ثابو أمبيكي رئيس جنوب إفريقيا السابق، وأبلغهم أن دولتي السودان وجنوب السودان اتفقتا على إصدار أوامر لاستئناف تدفق النفط الجنوبي عبر خطوط الأنابيب السودانية خلال أسبوعين، وذلك بعد توقيع الجانبين على المصفوفة المشار إليها. ويحدد الاتفاق الذي وقع عليه كبير المفاوضين السودانيين إدريس محمد عبد القادر مع نظيره الجنوبي باقان أموم، جدولاً زمنياً لاستئناف تدفق النفط. وأبلغ أمبيكي الصحافيين أن الأوامر ستصدر إلى الشركات في غضون أسبوعين لاستئناف تدفقات النفط، في وقت سارع فيه المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي إلى الترحيب بالاتفاق، ورحبت رئيسة مفوضية الاتحاد د. نكوسازانا دلاميني زوما في بيان، بالتوقيع الذي يأتي تتويجاً للمحادثات حول التنفيذ الذي يتضمن خطة مفصلة وجدولاً زمنياً للتنفيذ الكامل لجميع عناصر الاتفاق. حسن النية ونقل البيان القول إن زوما واثقة تمام الثقة أن الحكومتين ستعملان بالتالي من أجل تنفيذ التزاماتهما بسرعة وحسن نية. وتشمل الاتفاقيات التي جرى التوقيع على تنفيذها: الترتيبات الأمنية والتعاون الاقتصادي خاصة فيما يتعلق بتصدير نفط الجنوب عبر السودان، إضافة لحركة المواطنين ومعاملتهم في البلدين والتجارة والتعاون المصرفي. وقال رئيس الوفد السوداني إدريس محمد عبد القادرعقب التوقيع على المصفوفة، إن السودان يأمل أن تؤكد حكومة جنوب السودان التزامها بتنفيذ المصفوفة وفقاً للبنود والتوقيتات الزمنية الواردة بها، ووفقاً لمبادئ حسن النية والتعاون البناء وحسن الجوار، واكتفى عبد القادر بهذا القول مما يشير إلى أن الوفد السوداني ما زالت تخالجه بعض الشكوك في التزام دولة الجنوب... ثمة إشارة أخرى تعزز هذه الفرضية، وهي أن وزير الدفاع رئيس اللجنة السياسية الأمنية عبد الرحيم محمد حسين أشار في تصريحات من مقر المفاوضات بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا إلى أن تنفيذ الاتفاق على أرض الواقع، يتطلب الإصرار والعزيمة وهو الأمر الذي افتقده الطرفان عقب الاتفاقيات والتفاهمات على الترتيبات الأمنية التي وقعت بينهما في شهري فبراير وسبتمبر من العام الماضي، لضمان تنفيذ ذات البنود الأمنية التي تم الاتفاق عليها عشية الجمعة الماضية. الظروف المحيطة ورغم المخاوف المثارة هنا وهناك حول عدم التزام حكومة جوبا بما تم التوقيع عليه، إلا أن عدداً من المراقبين يرون أن الظروف المحيطة حالياً بدولة الجنوب على الأصعدة الاقتصادية والأمنية والسياسية والدولية، تدفعها دفعاً نحو التوقيع على هذه الاتفاقيات والالتزام بها على الأقل في هذه المرحلة التي وصلت فيها الاختناقات الاقتصادية والأمنية بدولة الجنوب سدرة منتهاها، ويستدل هؤلاء بتصريحات المتحدث باسم جيش جنوب السودان، فيليب أقوير، التي قال فيها إن الرئيس سلفا كير أعطى أوامره للجيش بالانسحاب من المنطقة العازلة على الحدود مع السودان لإقامة منطقة منزوعة السلاح، وإن عملية الانسحاب بدأت من ثماني مناطق حدودية كتأكيد لحسن النية والالتزام بتنفيذ الترتيبات الأمنية المثيرة للجدل مع الالتزام بما تعهد به سلفا كير كتابةً بفك الارتبط مع قطاع الشمال. وكان أقوير قد قال في تصريحات صحفية لاحقة بجوبا، إن هذه الخطوة جاءت إنفاذاً للترتيبات الأمنية الموقعة بين الدولتين والقاضية بخلق منطقة منزوعة السلاح لتسهيل عملية ترسيم الحدود ومنع الاحتكاكات بين الجيشين، وأضاف أقوير أن عملية الانسحاب ستستغرق أسبوعين. وعلى صعيد ذي صلة، رحبت فرنسا وأمريكا باعتماد السودان وجنوب السودان تنفيذ الاتفاق المشترك الذي توصلا إليه في سبتمبر الماضي، والقاضي بإنشاء منطقة منزوعة السلاح على الحدود المشتركة بين البلدين. وأشادت وزارة الخارجية الفرنسية في بيان، بنتائج محادثات جرت أخيراً بين البلدين تم الاتفاق خلالها على أن المنطقة منزوعة السلاح ستكون خاضعة لآلية مراقبة تشرف على مدى التزام البلدين بتعهداتهما. تفاؤل حذر ويرى أكثر من مراقب سياسي أن الاتفاق الذي تم التوقيع عليه صباح أمس بين الخرطوموجوبا لتنفيذ مصفوفة البروتكولات الأمنية، دفع عددًا من الأطراف الدولية اللصيقة بمجريات ومنعطفات المفاوضات إلى أعلى مراتب التفاؤل بتطبيع الاتفاق للعلاقات بين البلدين، واحتواء الاحتقانات الأمنية على الحدود بينهما، وفتح المسار أمام تنفيذ بقية الاتفاقيات الثماني الموقعة بين الطرفين، وفي الوقت الذي أكدت فيه المفوضية الإفريقية التابعة للاتحاد الإفريقي أنها على ثقة تامة بأن حكومتي البلدين ستطبقان ما وقعتاه بصورة ناجزة وصادقة، ورغم كل ما سبق، لا تزال حالة التشكك تفتح الباب واسعًا أمام العديد من التساؤلات حول التزام الطرفين بالتطبيق الفعلي لتحقيق مرامي وأهداف الاتفاق الذي يضع الأمن في سلم أولوياته، بالنظر إلى انهيار جدار الثقة في تعاملات الأطراف المتفقة مع عدد من الملفات الشائكة بينهما، ويأتي على رأسها حسم المعارضة المسلحة على الحدود بين البلدين والتي تشكل المعضلة الأساسية وأكبر المتاريس التي تقف أمام أي اتفاق سياسي بين البلدين. المعضلة الأساسية ويأتي دعم الجبهة الثورية وفك الارتباط بقطاع الشمال هو أحد المحكات الحقيقية والمعيار الحقيقي للتأكد ممّا إذا كانت جوبا هذه المرة جادة في اتفاقها مع الخرطوم أم لا... إلى حين ذلك، يظل الرهان قائمًا على حدوث اختراق حقيقي ليس في الاتفاق على البنود الأخرى فحسب، وإنما في الالتزام الصارم في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه حول مسألة الحدود والمنطقة منزوعة السلاح.. كما يظل الرهان قائماً بصورة أكبر إلى حين التوصل إلى اتفاق حقيقي في منطقة أبيي، وشعور المسيرية ودينكا نقوك بالأمان بعيداً عن الشعور بأن قضيتهم العادلة قد اختطفتها السياسة وأجنداتها الدولية والإقليمية والمحلية... وإن غداً لناظره قريب.