في مجمل الداخل لما جعل عدداً من الشخصيات السودانية ذات قدرات فذة أسباب كثيرة منها الصبر على الوصول لمراحل متقدمة في امتلاك ناصية البيان عن طريق القرآن الكريم ومدارسته زائداً الغوص في أمهات الكتب التي تزخر بالمعارف والأفكار. ما سبق ينطبق تماماً على واحد من أهم الشخصيات السودانية في النصف الأول من القرن الماضي. وهو الأستاذ المعلم الشاعر السياسي أحمد محمد صالح في العام 1896م وبأم درمان وُلد العملاق أحمد محمد صالح فكان أحد الذين التحقوا بكلية غردون التذكارية بعد إكماله دراسته الأولية فبرز كأحد النابهين في التحصيل الأكاديمي. ومن ضمن ذلك حفظه للذخيرة اللغوية وهو كتاب كوتجريف الذي استصعب على الكثيرين حفظه فكان من أوائل السودانيين الذين حفظوا هذه الذخيرة اللغوية. بكلية غردون سنحت له الفرصة لإبراز مواهبه في القراءة والكتابة رغماً عن القبضة الاستعمارية في جانب مراقبة الطلاب بالكلية. ظهر ذلك حيث تخرجه من الكلية فكتب شعراً بمداد الفرادة والتميز فصار اسمه المعلم الشاعر وهو صاحب هذا اللقب المشهور كأول سوداني يُلقَّب به. سارت حياته في طريقين لم يفصل بينهما فاصل وهما ممارسة مهنة تعليم النشء وكتابة الشعر، فظهرت قصائده. وهو ابن العشرينيات. أما مهنة التعليم فكانت حياته التي بذل لها كل ما لديه من حواس ووقت. للمعلم الشاعر أحمد محمد صالح عددٌ من المواقف الوطنية الرائعة ومنها زجره لبريطاني ببورتسودان لغضبه من تلاميذ بمدرسة بورتسودان الأولية بسبب عدم الوقوف له أثناء دخوله إليهم بحجرة الدراسة فكان أن تحدَّث معه بكبرياء أبناء الوطن والتراب الذي تربَّى عليه قائلاً له إن هؤلاء الصغار لا يعرفونك من تكون حتى يقفوا لك. تدرج المعلم الفذ في مدارج العمل التعليمي حتى وصل لمرحلة نائب مدير المعارف، وقبلها عمل معلماً بمدرسة حنتوب الثانوية حين افتتاحها. في مجمل ما يمكن معرفته عن هذه الشخصية هو صبره على المعرفة التي أوصلته لمرحلة كتابة الشعر بصورة تكاد تكون مدهشة. فكانت القصيدة لديه لا تكلف أكثر من التأمل والهدوء حتى تخرج في حلتها زاهية متلألئة. من نماذج أشعاره الرصينة التي سارت بذكرها الركبان قصيدة (دمشق) (صبراً دمشق فكل طرف باك) (لما استُبيح مع الظلام حماك) وكذلك نعتبر قصيدته (فينوس) واحدة من أعظم القصائد السودانية على الإطلاق. (لو كان لي ذهب المعز لأحسنوا صلتي وودي) وهو بيت الشعر الذي عدّه الباحثون في الشعر السوداني واحداً من أبيات الشعر الذي اختزلت مقالاً كاملاً في بيت شعر واحد. حين أتت رياح السودنة وتكوين المجالس الوطنية في جوانب التشريع والتنفيذ والقضاء وغيرها أختير واحدًا من ضمن خمسة آخرين لمجلس السيادة فكان رئيساً له في دورة من دوراته. في مارس 1973م رحل الشاعر بعد وعكة صحية لازمته ليرحل من دار الممر لدار المقر كاتباً اسمه في عالم مهنة التعليم كمعلم فذ وشاعر من طراز العمالقة.