اختار الكويتب خالد أبو أحمد لمقاله عنوان «رداً على د. محمد وقيع الله.. أحلام وقيع الله التي تحققت». وصدق المثل القائل إن الكتاب يُقرأ من عنوانه! والعنوان السالف تبدو عليه الهشاشة، وضعف الصياغة، حيث لا يسيطر كاتبه على عبارته ولو كانت قصيرة. فهو يكرر اسمي من غير موجب تعبيري أو بلاغي مرتين في عنوان مقاله، وكان حسبه أن يستخدم في المرة الثانية الضمير مع الأحلام فيقول: أحلامه التي تحققت، فهذا ما يقتضيه واجب الاختصار وداعي الذوق معًا. من الذي سقط في دراسته؟! ومع سقوطه المتتالي في اللغة، التي هي أولى أدوات التعلم والدراسة بلْه الكتابة، لم يجد الكويتب خالد أبو أحمد إلا أن يتهمني بالسقوط في الدراسة قائلا: «الدكتور محمد وقيع الله في موقفه من تقييم «يقصد تقويم» نظام الإنقاذ الوطني مثل ذلك الطالب الذي غاب عن الدراسة سنوات طويلة ثم رغب آخيراً في مواصلة دراسته لكن مع دفعته الدراسية، وأصر إصراراً شديداً على أن يمتحن معهم ففعل لكنه سقط سقوطاً مدوياً..!!». كلام الطير في الباقير! هل يقصد الكويتب أبو أحمد أنني سقطت في محاولتي لتقويم نظام الإنقاذ؟ أم يقصد أني سقطت عندما وضعت نفسي مع دفعتي التي تقدمتني وتخلفت عنها؟ أيًا ما كان الأمر فهو على خطأ لا يحتمل الصواب؟ حيث إني لم أقم أبدًا بتقويم تجربة نظام الإنقاذ ولم أجر في ذلك بحثًا أو أكتب فيه دراسة. وأما أني أصررت على أداء امتحان ما «لا أدري ما هو؟» مع أبناء دفعتي، فهذا ما لم يحدث قط، ولن يحدث أبدًا، لأني لا أعرف لي دفعة في الحركة الإسلامية. ولأني لم أكن أنساق مع الأنساق. فقد كنت دومًا فردًا متفردًا، لا أندمج في مجموعة، ولا أنتظم في تنظيم، ولا أنخرط في سلك. ولا أنفعل بما يفعل الناس أو يدّعون. ولذا لا يستقيم قول الكويتب أبو أحمد بأني أبحث عن أفراد دفعتي، التي إن قصد بها أهل الإنقاذ، فقد أخطأ خطأ مبينًا مهينًا، لأن هؤلاء هم أبناء دفعته هو لا أنا. فإني لم أشاركهم السلطة يومًا من أيام سنواتهم الطويلة في الحكم. بل شاركهم في الاستمتاع بالمناصب، حتى خاصمهم عليها وخاصموه، وركلهم وركلوه، وسددوا له أخيرًا الركلة القاضية التي أقصته، وطوحت به، وبددت «أحلامه» في الترقي في مدارج العمل الأمني المتسلط المستبد. شاهد ما شافش الحركة! وكعادة الكاتب في تكرار ما كرره قبل قليل عاد إلى اسطوانة الغياب والحضور، فزعم أني لم أشهد إلا مرحلة التنظير، في تاريخ الحر كة الإسلامية. يقصد الوقت الذي كان أمثاله من عشاق الشعارات وأسراها يجادلون بقضايا أصول الفقه ويزايدون بشعارات التجديد. وها هو بسطحيته منقطعة النظير يزعم أن مهام الحركة الإسلامية قبل الإنقاذ لم تتعد التنظير. وهذا خطأ لا يرتكبه مجرد مراقب لأعمال الحركة الإسلامية السودانية دعك ممن يدعي أنه كان في القلب منها أو الرأس. فلم تكن الحركة الإسلامية السودانية في عهدها القديم منكفئة على نفسها، منشغلة بقضايا الفكر والتنظير والتجريد، كما يزعم هذا الكويتب الساذج. بل ظلت تخوض محافل حافلة، ومعارك عاركة، وملاحم لاحمة، فصلت الكثير في أمرها، في مقالاتي عن إنجازاتها الخمسين. وهي المقالات التي أثارت مواجع هذا الكويتب أبي أحمد، ودفعته للرد الأخرس عليّ، وأثارت قبل ذلك مواجع جمع الخلعاء المنخلعين يقوده عبد الوهاب الأفندي، ومواجع جمع الشانئين الحانقين يقوده بالتبادل كل من فتحي الضو وذات السوار. وجلية الأمر أن الحركة الإسلامية السودانية كانت في أكثر عهودها مشغولة بالعمل دون الفكر والتنظير والتجريد. وقد كتبت عن هذه الملاحظة دراسة مختصرة من قبل بعنوان «براغماتية الحركة الإسلامية السودانية» نشرتها في بعض بلاد الغرب، واستشهد بها وأمن عليها في بعض كتبه، أحد كبار أساتذة الدراسات الإسلامية، ومراقبي أداء الحركات الإسلامية في الغرب، وهو أستاذ جامعة هارتفورد، البروفسور إبراهيم أبو ربيع، الذي غادر دنيانا قبل أسابيع. ولكن هذا الكويتب صاحب التجربة الوجيزة المبتسرة في العمل المشبوه في بعض أوساط الحركة الإسلامية السودانية، ما دل بكلامه هذا إلا على أنه لم يعرف شيئًا من فقهها، ولا تاريخها، ولا مجاهداتها، حتى غادرها! فهو من يحق عليه القول الساخر بأنه شاهد ما شاهد شيئًا في الحركة الإسلامية السودانية! إنجازات الحركة التي عذبتهم وفي نقده لمقالاتي العشرة، عن الإنجازات الخمسين البشيرية، تلك المقالات التي أوجعته، وعذبته، وبرحت به، لم يجد الكويتب أبو أحمد إلا أن يقول على سبيل التعميم:« وعندما يُعدد الأخ وقيع الله انجازات «الإنقاذ» المادية فإنه لم يأتي «يقصد يأت» بجديد ولم ينكر أي من المعارضين للحُكم هذه «الانجازات» المادية التي أبعد ما تكون من جوهر ما جاءت به الحركة بعد الانقلاب المشئوم في 1989م». وهنا قلت الحمد لله، فإن أبا أحمد قد فارق فجاج اللجاج، وبارح نهج الإنكار، لكنه سرعان ما عاد إلى المغالطة، وهي صرف آخر من صروف الإنكار، فقال: «انه ليس من المنطقي أن نُحاكم النظام بالانجازات التي ذكرها وقيع الله، حتى الانجازات التي تحدث عنها وقيع الله إذا تطرقنا فيها إلى التفاصيل سنثبت الكثير من الأخطاء والعواقب المستقبلية التي تحيطها والقنابل المؤقوتة «يقصد الموقوتة» في أكثر من مكان، لكن السودانيين يحاسبون النظام بالنهج الذي جاء به، وبالبرنامج الذي أعلنه من خلال حركته اليومية في الإعلام والعلاقات الدولية والدبلوماسية، «لماذا فقط في الإعلام والعلاقات الدولية والدبلوماسية؟! هل لأنك كنت تبحث لنفسك عن وظيفة هنا؟!» كما لم يكن في حسابات الذين اجتمعوا في ذلك الشهر من العام 1989م ليقرروا ما إذا كانت ساعة التغيير حانت أم لا أن يضعوا الانجازات المذكورة في حساباتهم، أبداً كان الهم الكبير يتلخص في التمكين لدين الله في السودان، وقد طالع القُراء مقالات محمد وقيع الله التي عدّد فيها انجازات النظام انه هرب بشكل واضح وجلي من التطرق إلى نتائج الحكم في تردي الأخلاق وانتشار الدعارة بكل أنواعها والجريمة المنظمة، والزيادة الفلكية في أعداد المصابين بالإيدز الآن يعقد في العاصمة الخرطوم مؤتمر دولي يبحث مشكلة انتشار المرض في السودان وانتشار المخدرات بين طلبة الجامعات، والازياد الخطير في معدلات الطلاق، والهجرة الى الخارج، «هذه هي السلبيات التي تختلقونها وتضخمونها وهي أحلامكم التي لن تتحقق أبدًا!» وهرب د. محمد وقيع الله هروب النعامة من الملفات التي تتحدث عنها الصحافة السودانية في ذات الايام التي كان صاحبنا يدبج في مقالاته مُعدداً إنجازات دولة بني أمية في السودان، هارباً من ملف الأطفال مجهولي الوالدين وموتهم بالعشرات يومياً ودفنهم بعيداً عن الأعين». فأي دوغمائية أشد عتوًا من دوغمائية هذا الشخص المغالط العنيد؟! إنه من جانب يعترف بإنجازات الإنقاذ ولا يستطيع أن ينكرها لأنها بادية كالشمس للعيان. ولكنه من جانب آخر يماري فيها بحجة انها ليست الإنجازات ذاتها التي كانت في حسابات وتوقعات مدبري انقلاب الإنقاذ المجيد «أطلق عليه الكويتب صفة الشؤم وتفادى أن يطلقها على الشيخ الذي كان على رأس التخطيط!» وفي منطق هذا الكويتب الدوغمائي الجامد فقد كان على قادة الإنقاذ أن يظلوا على مستوى ونمط تفكيرهم الذي كانوا عليه في عام 1989م. وألا يتطوروا قيد أنملة واحدة. وألا يستجيبوا للواقع وتحدياته ومطالبه. وإذا خطر لهم مثلاً أن يستخرجوا البترول في في عام 1999م فقد كان عليهم أن ينصرفوا عن هذا الخاطر الانصرافي، الذي لم يكن في أذهانهم وهم يخططون للانقلاب قبل عشرة أعوام!!