أعقب الجولة الأخيرة من مفاوضات اتفاق التعاون مع دولة الجنوب واقع جديد تشكلت على إثره مواقف ونقاط وقوف جديدة تقف عندها أطراف الصراع. ثمة موقف ونقطة وقوف جديدة تقف عندها الحركة الشعبية قطاع الشمال.. موقف عنوانه إن الحركة فقدت الأرض والجمهور فهي تلعب خارج الأرض وتعرض خارج الحلبة.. وأنها بفقدها للأرض أصبحت حركة معلّقة منبتة بلا جذور ولا سيقان تقف عليها في أرض الواقع.. أصبحت إحدى القضايا العالقة التي غرستها بين الشمال والجنوب فهي تهيم على وجهها في المَهَاجر وعواصم الضباب تستجدي وتستعدي على البلاد وتصفق لكل مثقلٍ بالذنوب والخطايا يرجم السودان بالحجارة. ومواقف ونقاط وقوف جديدة تقف عندها الحكومة. موقف جديد من الحركة الشعبية قطاع الشمال.. وموقف من المعارضة في الداخل.. من بين المواقف المختلفة للحكومة مع قطاع الشمال والمعارضة تظهر مستجدات متباينة في الموقف من قطاع الشمال، منها ما يبدو منطقياً ومنها ما يبدو تكتيكياً.. يظهر المنطق في الموقف الحكومي من قطاع الشمال في الرفض القاطع للتفاوض مع قطاع الشمال قبل التوصل إلى اتفاق محكم مع دولة الجنوب التي تحتضن قطاع الشمال وتمد له الحبل السُّري الذي بدونه يستحيل القطاع إلى بوق إعلامي ينعق في عرصات المجتمع الدولي.. في جانب آخر نجد أن الحكومة عقب إنجاز الاتفاق مع الجنوب تعلن أنها على اتم الاستعداد للتفاوض مع قطاع الشمال.. تعلن ذلك بلا تحفظ وبروح معنوية عالية.. بينما الحكومة نفسها تعلن عن ملاحقات قانونية بلا هوادة تطال قطاع الشمال والمسؤولين فيه ممن قصفوا كادوقلي الجمعة الماضية أثناء زيارة الرئيس إلى جوبا.. هذه المواقف على ما يبدو فيها من تباين إلا أنها بنظرة متأنية يمكن الوقوف على ما تنطوي عليه من تناغم وأخذ الهدف على أكثر من مرحلة.. ثمة نقاط مهمة تصلح لتكون أرضاً صلبة ينطلق منها التفاوض مع قطاع الشمال.. من تلك النقاط المهمة وصف وتشخيص القضية التي يقاتل من أجلها قطاع الشمال ووضعها على بساط البحث ودراستها وفحصها ومن ثم الاتفاق على أسبابها وجذورها وتحديد جوانب الحق والباطل فيها حتى لا نحسب الشحم فيمن شحمه ورمُ.. ومن تلك النقاط المهمة حقيقة أن من يحملون السلاح في وجه الحكومة باسم المناطق المهمشة فيهم من ليس من أبناء تلك المناطق، كما هو حال المتمرد ياسر عرمان المتحدث باسم قطاع الشمال.. ولا مجال هنا لاحتمائه هو وغيره ممن لا انتماء لهم لتلك المناطق خلف دعاوى نصرة الحق والضعفاء، إذ أننا لم نسمع أو نرَ عرمان يوماً في ثياب الواعظينا أو ينادي يا عباد الله توبوا فهو كهف التائبينا.. عرمان وغيره من أذناب الحزب الشيوعي لا يمثلون أبناء النيل الأزرق وجبال النوبة ولا يملكون تفويضاً أو توكيلاً شرعياً موثقاً وساري المفعول من أبناء تلك المناطق يؤهلهم للوقوف في المنابر والتحدث باسمهم.. وما يقومون به من محاولات بائسة لتمرير أجندات مشروع السودان الجديد من خلف ساتر المناطق المهمشة، والاختباء بين ثياب أبناء جنوب كردفان والنيل الأزرق.. لا تفاوض مع عرمان لأنه لا يمثل أبناء النيل الأزرق.. ومن النقاط المهمة في التفاوض المرتقب أن ليس كل أبناء النيل الأزرق وجنوب كردفان مع التمرد.. ليسوا جميعاً يحملون السلاح.. بل منهم من يجرم حمل السلاح ويثق ويعتقد اعتقاداً جازماً أن حلول مشكلات تلك المناطق تخرج من أبواب عديدة ليس من بينها فوهات البنادق.. وهذايستوجب أن تنصب أجندات التفاوض وتجنح لصوت العقل بأكثر من أصوات تجنح لتحقيق التوازنات والموازنات التي تستهدف قسمة السلطة والثروة مما أصبح من أدبيات التفاوض ومخرجات اتفاقيات السلام التي امتلكت فيها الحكومة خبرات تراكمية قلَّ أن تجد لها نظيراً في المحيط الإقليمي أو في التاريخ القريب.. أما الموقف من المعارضة الداخلية، فليس فيه جديد يستحق الذكر لعدم وجود معارضة داخلية بالمعنى المفهوم، ولها مواقف ثابتة ورؤى واضحة تتشكل تجاهها المواقف.. فالمؤتمر الشعبي المعارض اللدود الذي ربما يعتبر الوحيد صاحب أكثر المواقف وضوحاً تجاه الحكومة، وصاحب المبدأ الثابت والساعي لإسقاط النظام، حملت صحافة الأمس أنباء تفيد أنه لا يستبعد الوقوف عند محطات التلاقي المباشر مع المؤتمر الوطني! وأنه ربما لا يجد «مندوحة» في التخلي والتحلي! التخلي عن مسعاه لإسقاط الحكومة، والتحلي بالصبر لإدراك متسع من الحرية باتساع فسحة الأمل. الشعبي لا يجد مندوحة في الحوار لأنه أصلاً لم تكن هناك مندوحة لإسقاط الحكومة.. بقية القوى المعارضة الأخرى يصعب تسميتها معارضة وهي تعيش حالة من الشيزوفرينيا السياسية تجعل لها قدماً في الحكم وقدماً في المعارضة.. ابن في الحكم وأب في المعارضة، فتنام الحكومة والمعارضة آخر النهار بالأحضان تحت سقفٍ واحد داخل بيت واحد.. حتى إذا طلع النهار إذا هم يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله.. تحتاج الحكومة إلى هامش ما، تزمع من مفاوضات مع قطاع الشمال أن تلتفت التفاتة حانية للمعارضة بلمسة سحرية وتمسح على رأسها بحنو، فلها بكل شعرةٍ على رأسها حسنة... عسى أن تدخل في قول المصطفى: أنا وكافل اليتيم كهاتين!