وجدت عند الأخ الفاضل/ إبراهيم عثمان أبو جوخ، الموظف بمؤسسة المرحوم/ أحمد إدريس الأرباب، الجزء الثاني والثالث من مذكرات الشيخ/ بابكر بدري، فأعارني إياهما مشكوراً، ووعدني صادقاً بالبحث عن (الجزء الأول) منها، لأهميته التاريخية بحكم أن المؤلف قد تناول فيه أحداث ووقائع الثورة المهدية، لا سيما وأنه من المعاصرين لها، ومن المشاركين في بعض حروباتها!. هذا، وفي الجزء الثاني، استعرض المؤلف الأحداث والوقائع التي مرت به خلال الأعوام (1898م 1928م). وهي السنوات التي عمل خلالها بالتجارة، ثم هجرها وفضَّل الاشتغال بمهنة التدريس منذ عام (1903م) حتى نهاية فترة خدمته الرسمية، في يوم (4/6/1929م) أما (الجزء الثالث) فيعرض فيه الوقائع التي قام بها بعد المعاش الإجباري حتى تاريخ وفاته في يوم (4/7/1954م) وهي السنوات التي أسّس خلالها (مدارس الأحفاد الأهلية) مبتدئاً برياض الأطفال، ثم المدارس الأولية والوسطى والثانوية، للبنين والبنات. هذا ولقد كانت ضربة البداية في عام (1930م) بمدينة رفاعة، ومن ثم نقل (مدارس الأحفاد) إلى مدينة أم درمان، تلبية لرغبة كرام مواطنيها، وعلى رأسهم الإمام/ عبد الرحمن المهدي، والسيد/ عبد الله الفاضل المهدي، والشيخ/ عثمان صالح، والسيد/ محمد صالح الشنقيطي وغيرهم. ٭ (الحكايات والطرائف) هذا ونورد لقراء جريدة (الإنتباهة) الغراء، في السطور التالية، بعضاً من الحكايات والطرائف التي وقع عليها اختيارنا من الجزءين، ونأمل أن يجد فيها القارئ الكريم شيئاً من المتعة، والفائدة. ٭ بداية الحكم الثنائي.. الجمعة (2/9/1898م) ٭ قاسينا متاعب كثيرة، في أيام إباحة المدينة الثلاثة للعسكر، حيث كانوا يدخلون المنازل، فيأخذون ويأكلون منها، كل ما رأته عيونهم، ووصلت إليه أيديهم، ومن عارض فلا نعلم ما يحل به، ومَهّد لهم ما ذاع من الأخبار المبالغ فيها من القتل والضرب، فاستسلم الناس!! ٭ دخل علينا في اليوم الثاني عسكريان إنجليزيان، فأخذا ريالين مجيديين، وشمعتين، وتركا باقي النقود، وكل شيءٍ ردوه في مكانه. ثم جاء بعدهما ثلاثة عساكر سودانيين فدخلوا (بيت الحريم الداخلي) وصاروا يجمعون كل شيءٍ من النحاس والخرز والنقود والحلي والبهائم، ولحظتها دخل علينا رجل أخبرني أن بمنزل (محمد علي مكينة) بجوارنا بتجاويش، يدعى (بخيت موافي). وكان ذلك في عصر اليوم الثالث، فأسرعتُ إليه، لأنني أعرفه جيداً، فأخبرته: أنهم للآن لم يخرجوا من البيت، فأسرع معي بنفسه، فلقيناهم في الباب الخارجي محملين بالغنيمة على حمارةٍ، وعلى رؤوسهم.. فلما رأونا بُهِتُوا.. ووضعوا كل ما غَنموه في الأرض، وأطلقوا الحمارة، وأخذوا يعتَذرون للبتجاويش الذي كان يسأل كل واحدٍ منهم بغلظة شديدة: عن اسمه، ونمرته، وأورطته.. وهم يعتَذرون أذلاءَ، بعد تلك (الجبرة) التي أبدوها حينما دخلوا علينا. فَعُدْتُ أشفَعُ لهم عند البتجاويش، ولكنه لم يقبل شفاعتي.. واتَّهمهُمْ بأنَّهم تعدوا علينا.. وذلك لأنّ الوقتَ المحدّد لإباحة المدينة قد انتهى.. وهم يعلمون ذلك، ومن ثم أمرهم بإرجاع كل شيءٍ إلى مكانه بأنفسهم، ثم أخذهم ومضى.. ولا أدري ما صَنَعَ بهم، ولكنه عندما وَصَلَ (النقطة) أرسل لنا عسكريين يحرسان منزلنا من كل طارق! ٭ في اليوم التالي زرتُ عمي/ العوض المرضي، ولما عُدْتُ منه، وأنا في طريقي إلى منزلي، لحقني جاويش، وقبض عليَّ، فقلتُ له: يا أخي.. أنا أحفظ كتاب الله، فأكرمني لأجله، فقال لي: اقرأ إنكم، وما تعبدون من دون الله.. إلى آخر السورة. فقرأتها له.. فخَّلى سبيلي..! وحينها كانت قد انتشرت (السخرة) لردم الحفر، ومساواة بعض الشوارع القذرة! ٭ في تلك الأيَّام ارتفعت أسعار الحبوب والغلال، ارتفاعاً كبيراً، فجئتُ إلى الموردة لأشتري مؤونة أسبوع. وكانت (المراكب) تقف بعيدة جداً عن الشَّاطئ، ولذا لا يصل إليها (قاصدها) إلاَّ إذا وصل الماءُ إلى (صدره). وكُنْتُ أعرف صاحب الغلال، وهو (خلف الله تاتاي) فرفعتُ له صوتي بالسلام، وأخبرته: بأنه يلزمني أربع كيلاتٍ، فضحك، وقال لي: أرسل رسولك لأربعة أقداحٍ فقط.. (أي ربع واحد)...!! ٭ نتيجة لارتفاع أسعار الغلال المتصاعدة، أمَرَ كتشنر، مأمور أم درمان (علي شوقي) بأن يجمع له تجار أم درمان (بالضابطية) فجمعنا المأمور في الوقت الذي عَيَّنَهُ له، ولما وصل اللورد كتشنر.. سلَّم علينا، فحييناه بما يليق به. ثم سأل عن أسباب ارتفاع سعر العيش.. فقال له: محمَّد دبلوك (وكان صاحب سفن): لأنّ الحكومة احتكرت المراكب لنقل مهماتها من (بربر). فردَّ اللورد: إذا كان السبب المراكب، لكان سعر الغلال في مدني رخيصاً..؟! فردَّ عليه تاجر آخر قائلاً: إنَّ أحمد السُّني ينهب العيش؟!! فقلتُ له: لا.. يا سعادة الباشا: الحكومة هي التي تنهب العيش بمدني؟! فحقب يديه بظهره، وأسرع نحوي حتى وَقَفَ أمَامِي، وطأطأ قليلاً، (لطوله وقصرِي) حتى حاذى وجهه وجهي، وقال لي: الحكومة تنهبُ العيش؟؟ قلت: نعم، فقال لي: كيف ذلك؟! فقُلْتُ له: أنا أرسلتُ أخي، وهذا أرسل ولده، وذلك أرسل شريكه، فاشتروا العيش بمدني بسعر ستين قرشاً للأردب، وأحمد السني (مندوب الحكومة) اشترى لها في ستين قرشاً.. وانقطعت المراكب عن الترحيل. وصارت الحكومة تصرف (غلالها) الذي اشترته حتى خلص وانتهى، فجاءت لما اشتريناه تكيل شونة التجار، وتدفع لهم القيمة بسعر الستين قرشاً، وانقطع الوارد من الخارج.. لأنَّ الحكومة شَرَعتْ (تبني مبانيها) وتستخدم (الجمال) التي كانت تأتي بالغلال في نقل (الطوب) فانقطع الوارد!، فقال لي: وقد بدأ يتبسَّم: بهائمنا ما تأكل معكم عليقة؟!! فقلتُ: تأكل.. ولكن من الجالب.. وليس من الطالب، فطلب مني شرح (الجالب والطالب) فَقُلْتُ له: سعادتك، تعرفُ العربي مثلنا تماماً، فَتَبسَّمَ وقال: يعني الجالب الذي يبيع، والطالب الذي يشتري، قلتُ: نَعَمْ.. فقال لي: من هذا اليوم الحكومة، لا تشتري عَيْشَاً إلاّ بواسطة (متعهدين) منكم، ورجع إلى مكانه(!). ٭ عند بداية الحكم الثنائي، كسدتْ تجارة بابكر بدري، ومرّتْ به ظروف شدَّةٍ وضيق حتى صرفته عن طلب (العلم) الذي كان يتردد على العلماءِ من أجله، من أمثال الشيخ/ محمَّد الأمين الضرير. وذات يوم جاءه من (بربر) شقيقه يوسف بدري، ومعه ستون جنيهاً.. فَسَدَّدَ بها بعض الديون، وَجَرَّبَ التجارة مرَّة ثانية، ببعض ما بَقِيَ عنده منها، فلم تنجح..(!) (خصوصاً بعد ما جاءني أخي يوسف مرَّة (وهو يبكي) فقلت له: مالك؟؟! فقال لي: إنه مَرَّ بجماعةٍ، فسمعهم قالوا: انظروا إلى (عنق يوسف) كَيْفَ صارت رقيقة، وجسمه كَيْفَ اسْوَدَّ وضحكوا! فقلتُ له: يا يوسف: إنَّ هذا (الانقلاب) قد حصل لكل الناس، إلاَّ قليلاً منهم، وهو واحد من ثلاثة رجالٍ 1/ رجل ماتَ، وَضَاعَ ماله كالجعليين 2/ ورجل ماتَ، وبقي ماله للوارثين، 3/ ورجل ضَاعَ ماله، وبقي حيّاً، ينتظر رزقه، وقد انتفع بتجاربهم، فأيُّهُمْ الأحْسَنُ؟؟ قال: الثالث، فقلتُ له: أَلَسْنَا من هذا الفريق؟! فَضحك، وقال: واللّه، يا بابكر منذ أنْ ضَاعَ مَالُنَا، ما انشرحَ صدري، ولا ارتاحتْ نفسي إلاَّ بنصيحتك هذه! ٭ في عام (1930م) زرتُ المستر (وليمس) في مكتبه، فبادرني بسؤال: عن رأيي في الإدارة الأهلية؟! فَقُلْتُ له: إِنّها مليئة بالمساوئ، خالية من المحاسن، فقال لي، وهو يتكلف الحَزْمَ: كُلُّ مَنْ نَسْأله عنها (يمْدَحُهَا) فَقلتُ له: كُلُّهُمْ يَخَافُونَ مِنْكُم..؟! فَرَدَّ عليَّ مُغْضَباً.. وقال: ولماذا لا تخاف أَنتَ مثلهم؟! فَقُلتُ له: أنا عمري يزيد على السَّبْعينَ عاماً، وأنْتُمْ أجانب في الدين، قَلَوْ قتلتموَني (أدخُلُ الجنَّة) واسمي يخلّد في بلادي، فَعلامَ أخافَ؟! فضحك، وقال: واللّه حرام عليك أنْ تخاف! من أقواله ٭ (أصْدَقُ التاريخ ما كُتِبَ في زمانه، وصَدَقَ فيه كاتبه، وصَدَّقَهُ معاصروه فيما رَوَى!) ٭ (التاريخ يكتبُ الحوادثَ، مِنْهُ العادية للفكاهة، وغير العادية من الحقائق للاقتداء بها، حَسَناً وقبيحاً).. ٭ تَعَلَّمْتُ صِفَة (التواضع) من الأمير/ عبد الرحمن النجومي!.. ٭ كان الشِّعار الذي رفعه منذ أنْ اختار مهنة التعليم على غيرها من المهن في عام (1903م)، هو بيتُ شِعْرٍ للشاعر علي الجارم، يقول نَصُّه: العِلْمُ أَمْضَى من المواضِي فجرِّدوا نَحْوَهُ الجُهُودَا..! إبراهيم الجاك عجبان