انتهينا في المقال الأول إلى خلاصة مهمة هي أن هناك شراكًا مفتولة مفخخة وحيلاً ماكرة نصبها أعداء الأمة في طريق الصحوة الإسلامية تصور ما تسميهم بجماعات الإسلام السياسي بأنهم منافقون، إرهابيون، متطرفون، متشددون، إقصائيون، انتهازيون..! وهذه المكيدة ترتبت عليها مواقف فكرية ضارة منها على سبيل المثال الإيهام بأن الإسلام لا يعير السياسة اهتماماً ولا يجعلها في صلب منهجه، بدليل أن الذين يهتمون بالسياسة من المسلمين قلة فقط هم جماعة الإسلام السياسي، وهذه نشأت عنها صورة سالبة في ذهن كثير من الناس أن العمل بالسياسة يتنافى مع التوجه المستقيم للفرد المسلم الملتزم، وقد ظهرت هذه المثلبة بوضوح في موقف بعض إخواننا الدعاة وأئمة المساجد بحسن نية منهم وحرصاً على فاعلية الدعوة واستمرارها فأشرنا في المقال الأول أن بعضاً منهم صار ينبه بل يحذِّر طلابه ومستمعيه من خطورة السياسة، بالتالي عليهم أن يكونوا ناس دعوة فقط!! وأرى أن مصطلحي «الإسلام السياسي» و«الإسلام فوبيا» ولدهما ونحتهما الفكر الغربي الكافر المتحالف ضد الحضارة الإسلامية، والمصطلحان هدفهما تثبيت تصور في وسط المجتمعات الغربية أن المسلمين فريقان، فريق إرهابي يقف ضدكم وهم جماعات الإسلام السياسي وفريق آخر معتدل يمكن الحوار والتعايش معه وهم عامة الناس، وهذه لا شك مكيدة ماكرة تريد أن تصور النخبة الإسلامية «الساسة.. الفقهاء.. الاصوليين.. المحدثين.. المفكرين.. العلماء الربانيين.. المجاهدين.. اللغويين.. الأكاديميين.. ورجال الأدب والتاريخ بأنهم جماعات متطرفة أو غير معتدلة!! والغرب بهذا يريد أن يقصي من حلبة الصراع الحضاري والثقافي الفئة المستنيرة في الأمة ليفسح المجال أمامه لتمرير مصطلحاته وأفكاره تبعث البلبلة والتشكيك لضرب جذور بعض المسلمات في الفكر الإسلامي ومنها على سبيل المثال العلاقة العضوية المتجذرة المتكاملة بين الدعوة والسياسة وأشرنا سابقاً أن الإمامة العظمى والدولة ذات الشوكة تهيئ لازدهار مسيرة الدعوة إلاّ ظل نظام سياسي واعٍ فاعل ذو سيادة واستقلال. وحسب الفرضية التي ذكرناها من قبل أن هناك تحديات وعائقات تواجه مسيرة ايجاد الدولة الإسلامية وتوظيف الصحوة الإسلامية سياسياً ودعوياً لبلوغ مرحلة الشهود الحضاري واستعادة ريادة الأمة وهيمنتها الحضارية، وهذا يتطلب أولاً مجهودات سياسية ودعوية متكاملة تتزعمها النخبة الإسلامية «الفقهاء» بمدلولها الاصطلاحي الواسع وتؤازرها الجماهير، ومن الحلول التي يمكن أن تسهم في هذا البناء تنظيم صفوف الإسلاميين بمختلف أطيافهم ومدارسهم في تحالف إستراتيجي لمواجهة التيار العلماني وفتنته المدلهمة، وهذا يستدعي فتح حوار جاد ومناقشة موضوعية حول بعض النقاط الخلافية بين بعض الجماعات الإسلامية منها على سبيل المثال أهمية تذويب ثلوج المسافة بين السياسة والدعوة «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور» فهذه الآية تعالج شقين سياسي وآخر دعوي، حيث التمكين لا يكون إلاّ بنصب راية الدولة والولاية والإمارة العظمى، وإقامة الصلاة .. وهي من أعظم الشعائر.. وايتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شق دعوي يأتي تالياً بعد قيام النظام السلطاني ي الشوكة والمنعة الذي يذبّ عن حياض الأمة ويستمر الدعوة والحوار أيام السلم ويحرس الثغور ويرد عادية الأعداء أيام الحرب والجهاد. ثانياً: إن عملية الإصلاح السياسي وحصار الفساد الإداري والمالي عملية معقدة، لأن الانتقال من الفساد إلى الإصلاح الكامل لا يمكن الانتقال دفعة واحدة، ولا يمكن القفز قفزة واحدة هائلة نصير بها من وضع إلى وضع آخر مخالف له تماماً في الشكل والمضمون ولذا هنا يتنزل فقه الواقع والحال ليعالج هذه الحالة الطارئة حتى يهيمن الإحباط واليأس على القائمين بأمر عبادة الإصلاح. ثالثاً: من المصطلحات التي أفرزتها الديمقراطية الغربية المشوّهة والتي تحتم على الإسلاميين التصدي لها بقوة «مصطلح السيادة للشعب». وهذا مصطلح يخالف أصل التوحيد في العقيدة الإسلامية، لأنه يعني أن يكون الشعب هو صاحب المرجعية التشريعية العليا في سن القوانين، والله شرع أن تكون الحاكمية لله تعالى «إن الحكمُ إلاّ لله». رابعاً من الأمور التي يجب إلغاؤها من دساتير الدول الإسلامية المادة التي تمنع قيام الأحزاب الدينية وعلى أساس الدين وهذه أيضاً من الأفكار والمصطلحات التي غزا بها الغرب العالم الإسلامي بينما الأحزاب في إسرائيل وأمريكا وألمانيا وفرنسا وغيرها تقوم على أساس ديني وعقدي وحتى الآن يقف المشروع الإسلامي والعربي موقف حمار الشيخ على عرصات العقبة ويضلل الأنظمة الحاكمة بعدم جدوى قيام الأحزاب على أساس ديني وعقدي وهذه مؤامرة داخلية متورطة فيها النخب الدستورية والقانونية والمستشارون وقد نجح العلمانيون في جرهم إلى هذه البركة الخبيثة. بينما العلمانيون يجاهرون بقضية فصل الدين عن الدولة وبمنع الإسلاميين من الدعوة إلى وصل الدين بالدولة «الأحزاب الإسلامية على صور عقائدية»..!! خامساً: من الآليات المتبعة الآن في العمل السياسي الانتخابات والانتخاب معناه الاختيار من متعدد والانتقاء منه ومنها مفردة النخبة وهي جماعة من الرجال تختار وفقاً لأسس محددة، لا غبار على الأمر من حيث المبدأ، لأن الأمر في الشرع قائم على الاختيار لما رأينا ذلك مثلاً في وصية الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكن المشكلة التي تواجه الإسلاميين هي أن في هذا العصر صار حق الاختيار يمنح لجميع مواطني البلد ويستوي في ذلك المسلم والكافر والعالم والجاهل والفاجر والبر وهي عملية غيّبت دور ما عُرف في التاريخ الإسلامي بأهل الحل والعقد وهم العلماء والفقهاء الذين يفتون في قضايا الأمة، وفيما يرى فريق أهمية إسناد هذه المهمة إلى أهل الحل والعقد يعترض فريق آخر بدعوى من هم أهل الحل والعقد؟وماهي معايير اختيارهم؟ ومن الذي يختارهم؟ وهذه أسئلة غير موضوعية لمن يثيرها، أقول لا تزال الأمة مشبعة بأهل الحل والعقد وهم العلماء الربانيون وغيرهم من أبناء الأمة المخلصين الملتزمين، والفريق الذي يرى تجاوز الزمان والمكان لأهل الحل والعقد مخطئ لأنه خدع بمصطلح المواطنة الغربي المفخخ الذي يرى الحقوق والواجبات على أساس المواطنة وهذا أمر فيه خلل على إطلاقه، ولذلك يمكن أن نطرح مبادرة جديدة تجعل الاختيار يتم على مرحلتين الأولى يشارك فيها جميع المواطنين المسلم والكافر والبر والفاجر والجاهل والعالم يختارون عددًا محددًا من المرشحين، والمرحلة الثانية يأتي أهل الحل والعقد ليختاروا واحداً من هذه المجموعة وفقاً لمقاييس السياسة الشرعية وشروط الولاية العظمى وهذا الأسلوب يكون مخرجًا نافعًا يضمن مشاركة جميع الناس في صناعة القرار العام. سادساً: من التحديات التي تواجه الإسلاميين أيضاً تحفظ بعض الإسلاميين على المجالس النيابية، هذه المجالس أفرزتها ثلاث آليات هي الديمقراطية، والمواطنة والانتخابات، وعلى أساسها يصل إلى المجالس النيابية الجاهل والعالم والمسلم والكافر والفاجر الفاسق والبر الصالح، وهي مجالس تقوم بأدوار خطيرة في حياة الأمة تشرع وتراقب فهم بمثابة أهل الحل والعقد أحياناً وبمثابة أهل الاجتهاد أحياناً أخرى، وهذه قضية خطيرة جداً إذا نظرنا إلى مؤهلات هؤلاء أعضاء المجالس فيهم من لا يفرق بين العجوى والنبيذ وتلك كارثة، غير أن الكارثة الأعظم الانسحاب من قبة هذه المجالس وإفساح المجال للتيار العلماني والشعوبي العبث بحياة الأمة.