الغربة ذل وكربة مما تجلب مزيدًا من الهم والغم لأكثر المغتربين ومع أن في تراثنا قناعة وتنفير من الغربة حتى أنهم يفضلون الموت عليها (من النجعة وسكنة الغربة أفضل لي دفنة التربة(. ولكن نجد أن بعض الذين ركبوا موجة الهجرة كان يدفعهم جانب من التراث إلى الاغتراب مع أخذ القول (سافر ففي الأسفار خمس فوائد(، وأيضًا نجد أن بعضهم دعتهم الظروف الاقتصادية إلى محاربة حب الوطن علنا مما يدعوهم إلى الهجرة وكان بعدهم عن الوطن عجز ظاهر والاغتراب خير بديل للأهل.. وهذا يقودنا إلى القول إنه لربما صادف البعض من هؤلاء المغتربين بعض النجاحات في غربتهم «وهم قلة» وأيضًا نجد أن البعض الآخر دارت الدائرة عليهم وهم في الأساس لم يكونوا بحاجة إلى الهجرة ولكن جرفهم التيار والمظاهر الخادعة وفقدوا كل ما يملكونه ويمتلكونه.. في السابق عندما كان الناس يتحدثون عن المغترب «المفردة الشائعة لتقنين الهجرة» كان يملاهم الفخر والإعزاز والانفة خاصة أهلهم بل تردوا بعد العز برداء المهانة. فكم من مهاجر في هذا الزمان كان ملء السمع والبصر في وطنه فإن لقيته في المهجر استغربت كيف هاجر؟ ولماذا؟ وهل وجد مبتغاه؟ وأكثر ما يحزن في كل فكرة الاغتراب والمصيبة الكبرى أن وصف مرارات الغربة لا يقنع ولا يسر الذين لم يجربوا الاغتراب ولا يصغي إليه الراغبون فيها، ولا يرون في من يقول هذا الحديث إلا مثبطًا للهمم وقاتلاً للأحلام ولا يريد مساعدتهم، وعندما تصبح الفكرة واقعًا وتحملهم أمواج الغربة إلى غياهبها يتضح له حينها النصح ومن ثم يبدأ في الصراع والبحث عن طوق النجاة حيث لاينفع الندم.. رهبة الخروج من مأزق الغربة جد صعب وعسير، فكم من أسرة تفرقت وتشتت أبناؤها لما قاسوه من ظروف اقتصادية وهم خارج أرضهم وترابهم وماعانوه من ظلم وذل، فالحياة لا تعطي كل إنسان كل ما يتمنى ويرضى، ورغم الجهد الذي يبذل من أجل مستقبل آمن ومستقر إلا أن الحياة دومًا ما تكشر عن أنيابها لهم، ويأتي على ذلك أن الناس لا يرحمون المغترب ولا يعذرونه وحتى أولي الأمر لا يألون جهدًا في أن تزيد معاناتهم دون الإحساس بها أو السعي لمعالجتها، وحقيقة «الجمرة بتحرق الواطيها».