نحكي الطرفة التالية بمناسبة الخبر الذي أوردته بعض الصحف أمس والذي بدا وكأن بعض الناس «يزغرد» و«يَولْوِل» و«يكورك» قائلاً إن البترول «انعدم» والجازولين «راح في حق الله» وإن الصفوف «شوهدت» في بعض محطات الوقَّود، وأحدهم حلف بالطلاق أنه رأى عشر سيارات واقفة «وراء بعض» في انتظار «الكبَّة».. والطرفة يحكيها لنا البروفيسور عبد الرحمن موسى اختصاصي طب الكلى والمسالك البولية والأستاذ الجامعي المشهور.. ويقول إنه عندما كان يقوم بتدريس مادة «الفشل الكلوي» لا ينسى أن يكرر على تلاميذه ما حدث عندما طلبوا من أحد المرضى أن يقوم بجمع «البول» الذي يتم فرزه خلال أربع وعشرين ساعة في إناء كبير ويقوم بإحضار ما جمعه إلى الطبيب لكي يتم فحصه والتقرير بشأنه.. ويسمى هذا الفحص بتراكم الأربعة وعشرين ساعة «24 Hours urine accumulation». وهذا الفحص ضروري لكل من يحدث له فشل كلوي.. وشاءت الظروف أنه في زمن الرئيس نميري كانت هناك أزمة وقود طاحنة واستمرت هذه الأزمة حتى عهد الصادق المهدي في ما بعد الحكومة الانتقالية وحتى بعد السنوات الأولى للإنقاذ، على أن ظاهرة صفوف أزمة الوقود اختفت بعد الإنقاذ مباشرة ولم تظهر حتى الآن على الرغم من أن عدد العربات «الجارية» بالسودان وصلت الملايين، وعلماً بأن الخرطوم تستقبل كل يوم حوالى ألف سيارة جديدة لنج تتم إضافتها للطاقة العاملة، وعلى الحكومة أن توفر لها الوقود اللازم.. ويقول الدكتور بروفيسور عبد الرحمن موسى إن المريض نفذ التعليمات وقام بجمع كل البول الذي تم إفرازه في أربع وعشرين ساعة وجمعه في باقة يعادل حجمها جالوناً واحداً.. والرجل جاء بالمواصلات العادية وركب البص ووضع الجالون تحت الكنبة التي يجلس عليها.. وعندما وصل أمام المستشفى وهم بالنزول وجد أن الجالون قد سرق، وبالطبع فإن الذي سرقه اعتقد أنه جالون بنزين. وأردنا هنا أن نقول لأولادنا الصحافيين الذين تقلوا خبر أن هناك صفاً أو صفوفاً في بعض محطات الوقود بحثاً عن الجازولين.. إن الصفوف «زمان» كانت تقاس بالكيلومتر، وكان الصف الواحد يحتوي على خمسة آلاف عربة لكي يتم تزويد العربة بجالونين اثنين «بس» لمدة أسبوع كامل.. وكان «الحرامية» يسرقون البول بجالونه على اعتبار أنه بترول، وكنا «نبيت» يومين أو ثلاثة في الطلمبة لننتظر فنطاز المحروقات.. وكان كل مواطن يحضر معه البطانية والبطارية والعكاز لأنه سيقيم أياماً في المحطة.. وفي هذا الوقت كان أولاده يحجزون في صف العيش للحصول على خمس رغيفات ويحجزون في صف السكر للحصول على رطلين في الأسبوع، وحتى السجاير البرنجي كان يتم توزيعه بالبطاقة بمعدل علبة برنجي «أم عشرة» سجارات لمدة أسبوع كامل، وبعضهم يبيعها في السوق الأسود إذا لم يكن من المدخنين. أما صفوف هذه الأيام فهي صفوف حنينة وصفوف ظريفة وخفيفة، وقد لا يستحق الأمر أن يعلن عنه في الصحف، إذ أنه لا يعبر عن أزمة، وحتى لو كانت هناك أزمة فهي عارضة ولا تساوي كل هذه «الهيصة» التي تحاول إظهار البلاد وكأنها «جبانة وهايصة».. يا جماعة علينا أن نتذكر أننا «كنا وين وبقينا وين».. ويجب ألا ننسى أيام الصفوف الحقيقية وأيام الندرة.. ومهما حدث من أزمات فعلى الجميع أن يتذكروا أنهم يعيشون في مجتمع وفرة السلع على الرغم من غلاء الأسعار.. ويا جماعة «أحمدوا الله» ولا داعي لمجاراة الطابور الخامس الذي يحاول أن يظهر البلاد وكأنها تعيش في سنة ستة.