عندما استعرض المؤلف ما جرى للقرظيين على يد المسلمين الظافرين برّأ القرظيين من أي ذنب! وقال: «وحالما انكشف خطر الأحزاب وجَّه محمد (صلى الله عليه وسلم) طاقته لاستئصال بني قريظة، إذ قرر بعد حصار الأحزاب أن وجودهم في المدينة يشكل خطرًا داخليًا دائمًا عليه. جمع محمد (صلى الله عليه وسلم) جيشًا بلغ نحو الثلاثة آلاف رجل وحاصر حصون بني قريظة. وعندما تبين لبني قريظة أن وضعهم ميئوس منه فاوضوا محمدًا (صلى الله عليه وسلم) على أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير بأن يأخذ أموالهم وسلاحهم ويحقن دماءهم ويسمح لهم بالخروج بأُسرهم وأمتعتهم الشخصية، إلا أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) رفض. وفاوضوا محمدًا (صلى الله عليه وسلم) مرة أخرى متنازلين عن أمتعتهم الشخصية إلا أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) رفض وأصرَّ أن ينزلوا على حكمه (صلى الله عليه وسلم)«. ص 179. ما جرى للقرظيين واسترسل المؤلف في شرح عملية إقرار الحكم عليهم، وتنفيذ عملية ذبحهم في سوق المدينة، وأعلن تعاطفه معهم قائلاً: «لا شك أن هذه اللحظة المأساوية ملأت الكثيرين بالأسى والتعاطف الإنساني». ص180. ولا غرابة أنه بفيضِ كراهته الشديدة للإسلام والمسلمين كان من ضمن أولئك الذين تعاطفوا مع القرظيين المنكوبين!. وكرة أخرى شاء المؤلف أن يسترسل في حديث طويل عن نتائج ذبح القرظيين ليرجح أن سبب إقدام المسلمين على استئصالهم كان ماديًا بالأساس. ونقل عن الواقدي قوله: «لما اجتمعت المغانم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتاع فبيع فيمن يريد، وبيع السبي فيمن يريد، وقسمت النخل». ويخبرنا الرواة أن السبي بلغ ألفًا من النساء والصبيان. ونقرأ في أحد الأخبار: «لما سبي بنو قريظة - النساء والذرية باع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منهم من عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف طائفة وبعث طائفة إلى نجد، وبعث طائفة إلى الشام مع سعد بن عبادة، يبيعهم ويشتري بهم سلاحًا وخيلاً» ونجد في مادة الحديث إشارة لأثر غُنم بني قريظة على أوضاع محمد (صلى الله عليه وسلم) الخاصة فنقرأ :«كان الرجل يجعل للنبي (صلى الله عليه وسلم) النخلات حتى افتتح قريظة والنضير فكان بعد ذلك يرد عليهم»«. ص 181. لقد قلنا آنفًا إن المؤلف آثر أن يتجاهل أسباب سير المسلمين لغزو القرظيين، فما هي هذه الأسباب؟ ولماذا اتخذ المؤلف إزاءها خطة الصمت والإبهام؟ لقد ارتكب بنو قريظة خطيئة الخيانة العظمى ولذا نالهم العقاب الأعظم. فكانوا ضمن القوم الذين سعوا لتحريض قريش، وغَطَفان، وبني مرة، وأشجع، وسُليم، وغيرهم، لغزو المسلمين في المدينة. وأقنعهم حيي بن أخطب النَّضري بنقض عهدهم مع المسلمين في أشد لحظات الحرج، والمدينة تتعرض للحصار فنقضوا العهد المغلظ. ولما بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خبر غدرهم بعهدهم، لم يتعجل الأمر، وأرسل جمعًا من أصحابه، فيهم كبيرا الأنصار، سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، ليحدثوا بني قريظة، ويتبينوا، ويستوثقوا من جلية أمرهم. فأتوا ينبئون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بغدر بني قريظة، ونقضهم للميثاق. فاستبشر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالأمر ولكنه كتم الخبر عن عامة الصحابة في لحظات الهول الأكبر. ولما انجلى الرعب وتراجعت الأحزاب الغازية الباغية ووضع المسلمون أسلحتهم: «أَتى جبريل رسول الله (عليه السلام) فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم. فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم. إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم، فمزلزل بهم. فأذّن في الناس: من كان سامعًا مطيعًا، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة». وسار الجيش الإسلامي الظافر إلى بني قريظة، وحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الضيق، واستبد بهم الرعب، وحينذاك طلبوا أن يحكم في مصيرهم صاحبهم القديم سعد بن معاذ الأنصاري. وقد جاء في كتب السِّير: «حدثني بعض من أثق به من أهل العلم: أن علي بن أبي طالب، صاح وهم محاصروهُمْ: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير بن العوام، وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة، أو لأفتحن حصنهم، فقالوا: يا محمد، ننزل على حكم سعد بن معاذ». (يوسف بن عبد البر النمري، الدرر في اختصار المغازي والسِّير، المجلد الثالث تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1403ه، ص 171) وحكم فيهم سعدٌ بما استحقوه لقاء خيانتهم وتهديدهم لأمن المسلمين، وهو الموت الزؤام، ليلحق بكل المقاتلين القرظيين. وقد صدق المفكر الإسلامي البروفسور عماد الدين خليل إذ قال: «لم يكن رجال بني قريظة سوى مجرمي حرب، وفق قوانين القتال المعاصرة، نقضوا العهد، وانضموا إلى الأعداء، والحرب قائمة بين المسلمين والأحزاب. فكان نقضهم خيانة عظمى، ولم يكن عقابهم العادل المكافئ لفعلتهم سوى القتل». (عماد الدين خليل، دراسة السيرة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1401ه، ص347) كما لم يكن الحكم فيهم مختلفًا عن حكم التوراة في تلك الجناية الكبرى. فقد جاء فيها: «حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها، يكون لك للتسخير، وتستعبد لك. وإن لم تسالمك وعملت معك حربًا فحاصرها، وإذا دفع الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء، والأطفال، والبهائم، وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك». (سفر التثنية، الإصحاح العشرون، 10 13) وذلكم هو شرع بني إسرائيل الذي عوملوا به عن استحقاق. تبني المؤلف للتفسيرات الاستشراقية الإسرائيلية لقد تجاهل المؤلف كل هذه الحقائق، وانطلق يترسم ما قاله المستشرقون الإسرائيليون، الذين مالوا إلى تفسير أسباب الصدام الإسلامي الإسرائيلي بأسباب اقتصادية بحتة، وأخذوا على المسلمين غيرتهم من نجاحات اليهود في هذا الصعيد، ورغبتهم في مصادرة أموالهم وممتلكاتهم. ومن هؤلاء المستشرق الإسرائيلي البروفسور بيرنارد لويس، رائد فكرة صراع الحضارات، والذي ما فتئ وهو في التسعين من عمره يعبئ العالم الغربي على المسلمين. فقد ادعى أن المسلمين الأوائل امتهنوا السلب والنهب مهنة لهم، وشنوا الغارات على القبائل البدوية واغتصبوا ممتلكاتها، ولم يكن لهم هدف سوى ذلك الهدف المادي الوضيع. وأما مسائل الدين والدعوة فهي مسائل ثانوية تذرعوا بها ليبرروا بها إتيان الهدف المادي الشنيع. وزعم أن العرب كانوا كلهم سواء في استباحة السلب والنهب، وأن حياتهم كلها لاسيما في البادية، قد قامت على ذلك، ولذلك قال إنه لا يحق لأحد أن يخص محمدًا وقومه باللوم لأن ما ارتكبوه في هذا الشأن لم يكن يخالف الأخلاق العربية الأصيلة. (Bernard Lewis, The Arabs in History, The Oxford University Press, New York, 2002, P. 44) وهكذا شاء المستشرق الماكر، أن يدافع عن رسول الإسلام، صلى الله عليه وسلم بإثبات التهمة عليه أولاً، ثم بالبحث عن تبرير مناسب لها بعد ذلك. ولم يجد تبريرًا أفضل من أن يصف العرب بأنهم أمة سلب ونهب، وأن محمدًا، صلى الله عليه وسلم، لم يفعل سوى ما كانوا يفعلون!. وقد استعرض بيرنارد لويس سلوك المسلمين في عدد من الغزوات، وتطرق للصدام الذي حدث بينهم وبين اليهود، وافترض أن أصل ذلك لم يمت إلى العقيدة بسبب، وأن أصله كان التنافس الاقتصادي المحض. وادعى أن المسلمين قرروا أن يطردوا القبائل اليهودية من المدينة وما حولها، بسبب عدم قبول الأوس والخزرج للتفوق الاقتصادي اليهودي عليهم، ولذلك انتهزوا فرصة قدوم النبي، وتوحدوا تحت لوائه واستقووا على اليهود وطردوهم. (Bernard Lewis, The Jews of Islam, Princeton University Press) وهذا هو التفسير الذي تعلق به الدكتور محمد أحمد محمود وصدر عنه في ثنايا دفاعه عن القرظيين. وقد غفل الدكتور وهو في غمرة حماسته للدفاع عن يهود بني قريظة وتبرئتهم من أي إثم أن مستشرقًا إسرائيليًا بارزا كان قد اعترف بذنوبهم، فذكر في خلال حديثه عن فشل القرشيين في يوم الخندق، أنهم عجزوا عن الحصول على الإمدادات الكافية في تلك البقاع الجرداء، و:«أخفقت المفاوضات مع بني قريظة، الذين كانوا يسكنون في طرف المدينة بسبب من تردد هؤلاء وتذبذبهم». وبذلك اعترف بخيانة يهود بني قريظة، وتحالفهم من داخل المدينةالمنورة مع مشركي قريش. (كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب العربية، ترجمة أمين فارس ومنير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، ص 52 53).