كتبت بوستاً على حسابي فى الفيس بوك بعنوان «قصتي مع التاءات العشر» وطلب مني بعض المتابعين تفصيلها وشرحها وسأكتب هنا عن تاءين منها: 1/ تاء التطرف: إن التطرف حالة سيكلوجية أكثر منها موقف يقوم على أساس فكري أو فقهي، فمن الناس من يتوهم أن الأحب إلى الله دائماً ما كان ثقيلاً على النفوس شديداً على البشر، وأن الله يحب منا القيام بالأعمال الشاقة. وهذا الموقف النفسي والمسلك في التدين هو الذى يجعل المبتلي بالتطرف يرجح في كل خلاف ينشأ بين فقيهين بين الحرمة والحل القول بالحرمة، وبين التكفير والإعذار القول بالتكفير، وبين العقوبة والعفو القول بالعقوبة، وبين الوجوب والاستحباب القول بالوجوب، وهذه الحالة النفسية هى التى جعلت البعض يعمد إلى تضعيف كل حديث فيه رخصة وفسحة، والذين ذهبوا يواجهون التطرف الذى مزق جسد الأمة وأفسد وئامها الاجتماعى راحوا يردون عليه باستهزاء وسخرية وتهكم زادت من أوار ناره وهيجت من ثورانه وجعلت المواجهين له فى نظره أشد كفراً من اليهود والنصارى، وأخطر ما يضرب أمة من الأمم أن تتفرق، وأخطر من ذلك أن تجد لتفرقها غطاءً من الشرعية والعداء حين يأخذ بعداً مقدساً يصعب تفكيكه، وعندما يقوم على أسس مصلحية فهو سهل التفكيك والاحتواء، وفي مناقشة هادئة مع التطرف الذى يحرم ما لم يحرمه الله عز وجل ويكفر من لم يكفره الله عز وجل ويتبنى عدم إعذار المخالف المتأول وإن تلبس بكفر أبين هذه القواعد الخمسة: 1/ إن الإسلام ليس هو ما يسلم به وإنما هو من يسلم له، فالمرء إذا كان مقراً بالتوحيد يصدر في شأنه كله عن التسليم لله عز وجل ثم سلم بعد اجتهاد منه وبحث عن الحق إلى ما ظنه حكم الله عز وجل، وقد أخطأه فوقع فى ما هو كفر أو بدعة أو معصية فهو ليس بكافر ولا مبتدع ولا عاص، وذلك لأن الإسلام هو ما استقر فى قلبه من التسليم لله عز وجل وليس الإسلام شيئاً غير هذا . 2/ إن الأنبياء جميعا بعثوا بالإسلام فليس ثمة دين يسمى اليهودية ولا النصرانية، بل هذا أمر أحدثه الناس من بعدهم، ولما وجدنا أن دين الأنبياء هو الإسلام، ثم وجدنا النبي تختلف شريعته عن شريعة نبي آخر علمنا أن الإسلام ليس هو ماهية الشرائع من حل وحرمة وإيجاب وإباحة، وإنما الإسلام كيف تلقى الأتباع هذه الأوامر وكيف تلقتها قلوبهم وخضعت لها جوارحهم بغض النظر عن ماهية الشرائع، فقوم موسى وأتباعه الصادقون سلمت قلوبهم إلى قتل النفس توبة لله، بينما هو فى شريعة محمد عليه الصلاة والسلام انتحار إن فعله المجاهد فى أرض المعركة من جرح أصابه فلم يصبر عليه فقتل نفسه فحرم أجر الشهادة، وسلم قوم عيسى عليه الصلاة والسلام لتحريم الطلاق عليهم واكتفوا بالتطليق، بينما سلم قوم محمد عليه الصلاة والسلام لجواز الطلاق، فعلمنا عندئذٍ أن الإسلام هو التسليم لله عز وجل بغض النظر عن المسلم به. 3/ وجدنا أن شريعة النبي الواحد ينسخ بعضها بعضاً فيجعل الله ما كان حراماً فى الشريعة الواحدة حلالاً، ويجعل الله ما كان حلالاً فى الشريعة الواحدة حراماً، وأتباع النبي حين يسلمون لتحريم ما حرم الله ويسلمون لتحليل ما أحل يقم فى قلبهم إسلام، والإسلام ليس هذا التحريم ولا ذاك التحليل، وإنما هو ما تلقى العبد به أمر الله عز وجل من التسليم. 4/ فى الشريعة الواحدة يجتهد الفقيه ويبحث طالب العلم عن حكم الله عز وجل فينظر فى النصوص ويبحث عن الأدلة متجرداً لا متعصباً باحثاً عن الحق لا انتصاراً لمذهبه ورأيه، والنبي عليه الصلاة والسلام قضى بأن هذا المرء إن أصاب الحق مع اجتهاده له أجران، وإن أخطأ الحق مع اجتهاده له أجر، بمعنى أن هذا الباحث عن الحق المستدل بالنص فى الظاهر وإن كان متلبساً بما هو كفر أو بدعة أو حرام لكن التسليم قام فى قلبه، إذ سلمت نفسه لما ظنه حكم الله فنال أجراً على تسليمه وغفر الله عز وجل له خطأه. 5/ من المنافي للتسليم لله عز وجل المناقض للتوحيد عدم التسليم لله فى حكمه للمجتهد المخطئ بالأجر، فعجبت لقوم يزعمون الغيرة على الدين أكثر من الله تبارك وتعالى، فإن الله حكم للمتنازعين الذين رد كل واحد منهما للأدلة ثم سلم إلى ما انتهى إليه اجتهاده بالأجر، والمتنطعون المتفيقهون يزعمون بغض من حكم الله له بالأجر في الله عز وجل وعداوتهم لهم لوجه الله، فإن الجنة ورحمة الله تسع المسلم العاصى والمسلم المبتدع بل المسلم المتلبس بكفر عن تأويل سائغ، والمعالجة الفكرية العميقة لتاء التطرف هي التي تقطع دابرها ليس بالدعوة إلى أن نتفق في الأصول ونختلف في الفروع، ولا بالاتفاق في المعلوم من الدين بالضرورة، وهذه المصطلحات التى اضطرب مستخدموها اضطراب الحية فى تحديد ضابط لها. والصحيح أن وحدة الأمة وتأسيس إلفتها واعتصامها لا يتطلب رفع الخلافات بينها لا في أصول ولا في فروع، بل يتطلب تأسيس قاعدة إدارة تلك الخلافات على هدى من الله، ولا أجد فى فن إدارتها أفضل ولا أعظم وأيسر من نشر ثقافة الإعذار للمستدل ونشر ثقافة الاستدلال والاحتكام للأدلة والنصوص، والاحتكام إلى النص وحده كافٍ في العصمة من الكفر بغض النظر عما خرج به المحتكم بعد النظر في النصوص من تحليل أو تحريم . ونواصل فى التاء الثانية يوم الأحد القادم بإذن الله تعالى.