يظل الرحيل والغياب الطويل، هو حجيم الراحلين، الذين توزعوا في المهاجر البعيدة، أكلت قلوبهم الأرصفة وطواهم الزمن الكؤود في طوية الأسي الممض القاتل ومر الذكريات وسخين الأدمع الحرى والفؤاد الكسير والشوق الذي لا يوصف للأرض والتراب ... وقد اتخمت الهجرة والرحيل الأدب والإبداع السوداني مثلما أعملت السخام على سطح الحياة لدى الراحل والمقيم منهم، وصيرت الواقع قطعة من نار وجرعة من علقم وعيناً مسهدة وقلباً مستهاماً قلقاً لا يهدأ على حال ولا يستقر لمقام... ولكم كانت الأشعار والقصص والروايات والمرويات والأغنيات السودانية، نهراً من المشاعر والأحاسيس المتلاطمة كالبحار البعيدة ملأى بالصدق البسيط، ومفعمة بالمواجد كحال غيرهم من العالمين.. وتلك طبيعة الإنسان.. ولكن ثمة خصيصة لدى السودانيين دون غيرهم، أن الوطن معهم مهما كان السفر والغياب وطول المكوث في مهجر قصي ناء ... يمرغون ذكرياتهم على رصيف الجليد وفي المدن الباردة وفي أكوام الضمائر الميتة والعالم الضاغط بقدمي ماديته الغليظة كأن مسماراً من حديد السأم والضجر والعذاب يغرس في صدورهم اللاهثة الملتهفة. في منافيهم الاختيارية تتسرب السنوات من بين أيديهم وأعينهم وانتظاراتهم وصبرهم الطويل تماماً كما قال عبد الوهاب البياتي الذي عاش بعيداً حتى مماته عن وطنه العراق: ليل المنافي في محطات القطار بلا عيون يبكون تحت القُبعاتِ ويذبلونَ ويهرمونْ «ب» في مدن العالم الفسيح يتوزع أبناء السودان كزهرات التوليب في ربيع أوروبا، يتفتحون تارة ويذبلون أخرى، شرب الصقيع حرارة الدم القادم من تحت شمس الضحى المتوهجة، ولسع البرد والجليد لباب القلب النقي الصافي، مثلما ما هم مناطق أخرى من دنيا الله الواسعة يعاند شوقهم طقسهم وتتحرك الدورة الدموية في شرايينهم وأوردتهم عكس حرية التاريخ والجغرافيا طالما هي لا تؤدي بهم لوطن وإياب.. وهم ليسوا مثل أبي الطيب المتنبي حين يصرخ وقد لفه سأم عنيد: غني عن الأوطان لا يستفزني إلى بلد سافرت عنه إيابُ لكن السودان ليس هو مثل كل بلد ولا كل وطن .. هكذا تقول عيونهم وتدمع، ومثل ذلك تهمس أفئدتهم وتطمع. يكبر الوطن عند الغائبين أكثر منه عند القابعين فيه، خاصة أولئك الذين بعدوا عنه في عالم مغاير وبيئة مخالفة وحياة أخرى تختلف في كل شيء عما ألفوه ورضعوا منه، لا الشمس هي الشمس ولا القمر هو الذي يسافر ضاحكاً وديعاً صافياً كقطرة ماء في سماء السودان يعربد في الصيف كما يشاء ويغازل السحاب في الخريف كما يريد، ويسأل عن السمار في الشتاء وضوؤه يملأ الارض وأرجاء الفضاء.. لا الماء هو الذي يكرعون منه ويشربون، ماء القناني كالطائر العندليب في قفص من ذهب، لا طعم له ولا رائحة لكن ماء الطين والجروف والرهود الدوانكي أعذب من ماء كل الدنيا وأطعم وأروى لغلة الصادي وحين يصافح الوجوه. «ت» في المدن الغربية البعيدة والمادية القاتلة والرأسمالية التي بلا قلب تدوس على كل شيء، والمجتمعات التي فقدت نضارتها، إلا من بناياتها الشاهقة ونظامها الجبري الغليظ وحياتها المعلبة، يعيش الآلاف من السودانيين، بقلوب من ريش العصافير، رقيقة راعشة مبللة بمطر الشتاء، تحن للدفء والعبير ورائحة الحطب والجمر في المواقد وروث الأبقار المحروق، وشخب الحليب حين يحلب، وانبعاث شهقة قدرة الفول ورائحة زفيرها في أي متجر صغير في أحياء الخرطوم ومدن السودان من أقصاها لأدناها، ونكهة المانجو القادم من أبو جبيهة وفوح برتقال جبل مرة. هكذا هم، يبحثون عن وطن موجود في قلوبهم بعيد عن عيونهم، مكث البعض منهم في هذه المهاجر أكثر من ثلاثة إلى أربعة عقود من السنوات، بعض يعود ويؤوب ثم يقفل راجعاً من حيث أتى، لكن الوطن هو الوطن في الوجدان لا يغيب، يتحلقون حول كل شيء له رائحة الوطن وعطره وسخونته السياسية هي أو تلك التي لا تهدي لهم الشمس إلا حرها القائظ وأشعتها الحارقة.. ألفوا الركون لماضي الذكريات أو النظر من خلال أعين وأعصاب السليكون وشعيراته الدقيقة أو الشاشات الضوئية لوجه البلاد وعيونها النجل ونسماتها التي لا تأتي إلا مع أغنيات حسين بازرعة وصلاح أحمد إبراهيم، وكلاهما تمنى لأجنحة الطير لا الطائرات التي تعمل بمحركات جنرال إلكتريك، أن تحمل شوقه أو تأتيه بالوطن كله في طرفة عين كما قال الرجل الذي عنده علم من الكتاب للنبي سليمان عليه السلام. وكما يقول محمود درويش أسبق الموت إلى قلبي قليلاً فتكونين السفر وتكونين الهواء أين أنت الآن من أيّ مطر تستردين السماء؟ وأنا أذهب نحو الساحة المنزوية هذه كل خلاياي حروبي سبلي هذه شهوتي الكبرى وهذا عسلي هذه أغنيتي الأولى أغنّي دائماً أغنية أولى ولكن لن أقول الأغنية «ث» قصص وحكايات.. لمن يكابدون الغربة وأهوالها في العالم الأبعد، تتغير الأحوال والملامح وتتبدل الأوضاع والظروف، تمضي الأيام مسرعة كأن شراعاً من ريح مجنونة يحملها بعيداً بعيداً، وهم يوزعون مواقيت الرجوع وجرعات الحنين، فوق ملاءة المساء الطويل ويمدون خيوطاً شجن نحو نجمة الشرق البعيدة الغارقة في وشاح الظلام، بعضهم درسوا في مدن باردة وبقوا حيث هم، وبعضهم أتى على أمل العودة بعد حين ونوع آخر جرفته جرافة السياسة، وصنف آخر خدعته الحياة وصورت له العالم وراء حدود بلاده هو الفردوس الجديد، تزوج منهم من تزوج في زيجات الأجنبيات الذي له ألف وجه للمحنة، والبعض شقي بأبنائه ماذا يفعل لهم إذا عاد ولم يعودوا معه وكيف يتطبعون بطباع بلده.. و... و... وتساءلوا كلهم مثل الغائب الأكبر والتائه الأعظم في ضباب الفراغ محمد مفتاح الفيتوري: وهل إحباس الروح في جوف التراب هو الزمان ؟ وهل الحنين لحيثما اشتعل الحنين هو المكان؟ بالطبع لا مجيب ... لأن الإجابة في بطن الكلام.. ولا معقب على الحديث والأسئلة والإجابات، لأن السائل ليس بأعلم من المسؤول. «ج» ليس لدى الوطن ما يقوله ولا ما يعطيه من ضمان، إلا حضنه الكبير ووجهه الباسم المرهق وعينيه الناصعتين الساطعتين المتعبتين، فهو الذي وهب آلاف الراحلين سوانح للبكاء ومواسم للحبور، كل شيء فيه رغم كل شيء، هو للغد والمستقبل وللإياب، ومهما كانت المسافات تتباعد والمواقف تتنافر، فإن مضغة في داخل كل منا تنبض به وتعمل من أجله مستعدة لفداء. الذين يقضون الليل في سهر ونصب وتعب يجري في الدم ويتمشى في العروق يرسلون أنينهم واشتياقهم، ومحاجرهم ومآقيهم تسابق حنينهم لبلدهم، لا تكفي مأساتهم أنهم لا يعودون.. بل أنهم لم تغادر منهم إلا أجسادهم فالقلوب مازالت هناك، في ساحة المولد في أم درمان وليس في بياسا روبوبليكا وساحة القديس بطرس في روما.. وفي سوق أم دفسو في نيالا وليس في أزقة نيوكولن والكسندر بلازات وشارع كورفورشتيندام في برلين.. وفي مطاعم السلات في كسلا وليس في ساحة الكونكورد والحي اللاتيني حي باربيز وعلى ضفاف السين في باريس.. وفي ملجة سوق السمك في كوستي وليس في مراتع التسكع على هايد بارك وتحت ماربل أرش في لندن.. وعند مقاهي الأبيض وكادقلي وسوق العناقريب في الدلنج لا في نيوجرسي وفي محطة القطارات في مونتريال.. كلهم للوطن والوطن منهم رغم أن العمر لا يبقى ولا يذر. كان السوري الشاعر الكبير الراحل محمد الماغوط يتمضى في ليل الغياب الطويل الطويل وخرجنا من هذا الخم الكوني إلى الفضاء وتابع تمتمته ونحن نتمشى على ضفاف السين ذراعاً بذراع: أميركا وراء جنون نيتشه وفان كوخ وانتحار لوتريامون وهمنغواي وخليل حاوي وصمم بيتهوفن وصرع ديستوفيسكي وكآبة شارلي شابلن وتشرد رامبو وإبراهيم سلامة وخطف كارلوس واختفاء موسى الصدر وإعدام لوركا وأنطون سعادة وجفاف الأنهار وهجرة الطيور والحل؟ سأشد رحالي إلى الهند، إلى اليابان، إلى الصين الرفيقة وأنت؟ سأعود إلى قريتي وقصائدي القديمة. وأنا كذلك.