تمر الأعوام وتتوالى ومازال لثورة الإنقاذ الوطني ذكرى خاصة لدى أبطالها وعامة وخاصة لدى الشعب، وها هي الذكرى الرابعة والعشرون تمر على اندلاع الثورة الموافق الثلاثين من يونيو عام «1989م»، فماذا قال أحد صُناعها وأحد أعضاء مجلس قيادة الثورة وهو العميد «م» سليمان محمد سليمان؟. وبعد مرور عقدين ونيف على اندلاعها... «الإنتباهة» حاورته بين العام والخاص والحميمية الإنسانية لمن رحلوا أو بقوا من رجالات الثورة، فإلى مضابط الحوار: مدى العلاقات بينكم كأعضاء مجلس قيادة الثورة فقد جمعت بينكم الأخوة الإسلامية قبل العسكرية والثورة وتفرَّقت بكم السبل؟ كانت تربطنا نحن أعضاء مجلس قيادة الثورة علاقات أُخوية وإنسانية حميمة، فقد قامت ثورة الإنقاذ في الثلاثين من يونيو «1989م» بمسمياتها وظروفها في تلك الفترة العصيبة التي حتَّمت علينا الجانب الروحي والديني قبل كل شيء، مما هيأ لعلاقات قويَّة وراسخة بيننا كقيادات للثورة، وأصبح هناك حميميَّة ودفء في العلاقة الشخصيَّة بيننا جميعاً. تربطك علاقة خاصَّة جداً بالمشير الراحل الزبير محمد صالح لم تنقطع حتى بعد أن صار نائباً لرئيس الجمهورية وسافرت أنت.. حدِّثنا عنها؟ حقيقة افتقدنا كثيراً الشهيد الراحل المشير الزبير محمد صالح، فقدناه كإنسان أولاً وكقائد لركب سفينة الإنقاذ ثانياً، وقد لا تعلمين أنت والكثيرون من الشعب السوداني، أنه عند عودتي للسُّودان من سوريا وزيارتي للأخ الحبيب الراحل الزبير في منزله بمنطقة كوبر احتفى بي كثيراً وكان حينها نائباً لرئيس الجمهوريَّة وخرج معي مودعاً حتى باب منزله وهو حافي القدمين، فقد طغى شوقُه وحبُّه الأخوي لي على كل البرتوكولات والمناصب فأسرع لوداعي وهو حافي القدمين حتى لا تفوته تلك اللحظة الصادقة فلم يكترث بقيود المنصب وإنما أواصر المحبَّة الأخويَّة الخالصة في الله تعالى، وكان يسألني عن أحوال أطفالي وأمهم بالاسم، الأخ الزبير كان شخصاً نادراً أحبَّه كلُّ الشعب السوداني، نسأل الله له الرحمة وأن تكون محبَّة الناس له في ميزان حسناته. تعرَّضت لاستيضاح إداري من قبل الخارجيَّة لحضورك من سوريا لتشييع صديقك وأخيك الزبير، حدِّثنا عن هذا الأمر وكيف تجاوزته؟ من المفارقات العجيبة أنَّه عندما استشهد الأخ الحبيب الزبير محمد صالح حضرتُ خصيصاً من دمشق للعزاء ولكن على نفقتي الخاصة وليس على نفقة الحكومة، وشهدتُ مراسم التشييع بمقابر الصحافة، وبعد الفراغ من ذلك فوجئتُ بأحد الموظفين بوزارة الخارجية قد أرسل لي استيضاحاً إدارياً يستجوبني لماذا حضرت للسودان، فلم أرد عليه لأنَّ هذا الأمر أكبر من أن يفهمه مثله، فمهما اجتهدتُ في الشرح فلن يفهم أبداً سر العلاقة بيننا والتي جمعت بين روحينا إلى أبد الآبدين. وهل غيرت المناصب العُليا التي تقلدها رجالات الثورة الأوائل من رفقائكم النفوس؟ المناصب العُليا لم تغيِّر أبداً العلاقات الحميمة بين الصفوة الأولى لثورة الإنقاذ سيَّما أعضاء مجلس قيادة الثورة، فرغم أنه تفرقت بنا الطرق شتى فما زال الفؤاد ينضح حباً ووفاءً لرفقاء الدرب الأول، فكما أن المنصب لم يغيِّر النائب الأول فأيضاً لم يغيِّر الرئيس المشير عمر البشير، فهو رجل ودود وحبوب ويسأل عن أحوالنا دوماً وإن كان قد انشغل كثيراً في الآونة الأخيرة بهموم الحكم الكثيرة. اللواء «م» الراحل محمد عثمان محمد سعيد كان معروفاً عنه الزهد في السلطة والرِّقة والهدوء ما الذي زجَّ به في دهاليزها؟ اللواء «م» الراحل محمد عثمان محمد سعيد زاملناه منذ السبعينيات في سلاح المدرعات، وكان حينها قائد سرية الهندسة وهو رجل «ملاك في شكل إنسان»، وهو ودود ورقيق الحاشية، لكنه عند كلمة الحق لا يخشى لومة لائم، وفي مواقف الشدَّة والحسم أسدٌ هصور، وقد كان مثالاً للرجل النزيه العفيف رغم أنَّه واجه كثيراً من الظلم أثناء توليه ملف التكامل الليبي السُّوداني، فصبر واحتسب لله ولم يتذمَّر، ولعلَّ صبرَه في معاناته من المرض كان خير دليل على قوة شكيمة هذا الرجل القامة، جزى الله ثورة الإنقاذ خير الجزاء فقد جمعتنا برجال مثل الذهب نفخر بهم لا أذكرهم لكن منهم غازي صلاح الدين وعوض الجاز وعبد الوهاب عثمان والطيب إبراهيم. عند اندلاع الإنقاذ وصفتموها بالثورة واعتبرها المعارضون انقلاباً لأنها أتت بالدبابة والجيش.. كيف تقيِّم هذه الحقبة وأنت خارج الحكم؟ نحن منذ اندلاع ثورة الثلاثين من يونيو أنجزنا الكثير الذي غيَّر حياة الشعب للأفضل، وما دمنا فعلنا ذلك فلسنا بانقلابيين لأننا لم نتولَّ السلطة عنوة لمصلحتنا وإنما لأجل الشعب والتغيير الإيجابي، ولذا حقَّ لنا أن نسمِّي أنفسنا ثورة لا انقلاباً وفقاً للعرف والقانون. وما دليلك العملي على تلك الثورية؟ ما إن فرغت الثورة من مراحلها الأولى حتى أعلنت بنفسها أنها حلَّت مجلس قيادة الثورة وأعلنت عن مرحلة الشرعيَّة الدستوريَّة بدلاً من الشرعيَّة الثوريَّة بقيام الانتخابات العامَّة لجميع الأحزاب وقد كان. يقال إن الليلة الأولى للثورة كانت حافلة بكثير من الأبطال لم يُدوَّنوا في سجلها الرسمي، أصحيح هذا؟ في الليلة الأولى للثورة كان هناك أبطال مجهولون من خلف الكواليس وليس فقط الظاهرون للعيان على شاشات التلفاز أو المذاعون في البيان الأول، فقد كان هناك من لهم دور مقدَّر من المدنيين والجيش آثروا الإنجاز بصمت من أجل الوطن والدين، فالثورة قامت بجهود الكثيرين وكانت مثل الكتاب ذي الصفحات الموزَّعة، كل صفحة مع شخص حسب الدور المنوط به في تكامل. تولَّيت منصب الناطق الرسمي للحكومة في أيام الثورة الأولى وكان دوراً صعباً يحتاج لكثير من الموازنات والموافقات بين المهنية والاجتماعية كيف ذلك؟ تولَّيت منصب الناطق الرسمي في أصعب الأيام في بداياتها، والكل يتوجَّس من أي شيء ويتعامل معه بحذر، وكان الأمر يحتاج لكثير من الموازنات لبعض المعادلات الصعبة، وقد عرّضني منصبي كناطق رسمي لكثيرٍ من المواقف المحرجة والصعبة، فقد كان لا بد أن أقوم بدوري المهني الرسمي بإذاعة وإعلان الحقائق واضحة للجميع عبر وسائل الإعلام، وأذكر مثالاً لذلك موقفاً محرجاً وفيه سوء فهم مع زميلي العقيد بكري المك محمد موسى حاكم الإقليم الشرقي آنذاك فقد أذَعتُ بياناً بصفتي الناطق الرسمي عن بعض التصرفات الخاطئة للعقيد بكري، ولما تقابلنا بعد البيان في مناسبة اجتماعيَّة كان غاضباً مني، ولكني هدّأته وأفهمته أنَّه لا ذنب شخصي لي وأنَّ دوري مهني فقط كناطق رسمي يعكس ما يأتيه من رئاسة الجمهوريَّة والأمين العام لمجلس قيادة الثورة. كنتَ والياً للولاية الوسطى لكنك حكمتها من سوق الخضار وزرايب المواشي والطرقات المكتظَّة بالشعب، كيف كان ذلك؟ كنتُ أحكم الولاية الوسطى من داخل سوق الخضار وزرايب «المواشي والبهائم» في الدمازين وكوستي، وكان المواطنون يجدونني في كل لحظة بينهم، فتحرُّكاتي غير مبرمجة أو محسوبة، أبحث عن مصلحة المواطنين والرعايا في أي موقع يحتاج إليّ ولا أبحث من خلف مكتبي بل ميدانياً في قلب الحدث. الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك زار السودان في أيام الثورة الأولى وكنت حينها من الذين قابلوه بصفتك الناطق الرسمي وعضو مجلس الثورة، أسرد لنا ذلك؟ الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك زارنا بالسودان في أول أيام ثورة الإنقاذ، وفي اجتماع رباعي جمع بينه وبين شخصي والرئيس البشير والراحل المشير الشهيد الزبير محمد صالح كنائب للرئيس، نصَحَنا حسني مبارك بقوله للرئيس البشير «عندي طلب واحد» منك يا سيادة الرئيس: «أن تتوقف عن زراعة القمح بالسودان حتى لا تغضب أمريكا». وقال لنا واعداً إنه سيتحدث إلى أمريكا ليعطونا القمح بسعر مخفَّض، فكان الرد الحاسم والفوري من الرئيس البشير ومنّا جميعاً بأننا لا نريد القمح من أمريكا ولو مجاناً، فردَّ الرئيس حسني مبارك «علي كيفكم انتم ح تدخلوا في حرب إستراتيجية مع أمريكا»، ومنذ ذاك الوقت صار حسني مبارك يُضمر عداءً سافراً لثورة الإنقاذ.