تابعت باهتمام بالغ ذلك الحوار الذي أجرته صحيفة الأخبار مع الأمين العام للنهضة الزراعية والذي يقول فيه إن النهضة الزراعية تفكر الآن في تنفيذ المرحلة الثانية (12 2014) والغريب أن العام الأخير من المرحلة قد شارف على الانتهاء وبقي منه أقل من خمسة أشهر والنهضة الزراعية ما زالت تفكر!! ماذا تم في المرحلة الأولى والتي تعتمد على أدائها المرحلة الثانية التي شارفت على الانتهاء قال الأمين العام إنها أدت إلى نتائج كبيرة وهذه النتائج الكبيرة تعتمد عليها المرحلة الثانية فما دامت النتائج كبيرة فما الذي عطل المرحلة الثانية؟! في أي مجال إنتاجي تحسب النتائج بالأرقام لا بالإنشاء فهل ذكر لنا الأمين العام هذه النتائج الكبيرة في شكل أرقام تدل على الإنتاج، اختفت الأرقام تماماً عن ما يسمى بالنهضة الزراعية، كم كان إنتاج الفدان قبل النهضة الزراعية وكم كان بعدها وما هي نسبة إنتاج الغذاء التي وفرتها النهضة الزراعية من الحاجة الكُلية، الأرقام الحقيقية تقول إن استيراد الغذاء قد ازداد وبكميات كبيرة حسبما ورد على لسانه. يعزو الأمين العام هذا التردي إلى وجود فهمين متناقضين لعلاقة الدولة بالإنتاج، وزج بالفهم الاشتراكي للإنتاج وأن الدولة تمتلك وسائل الإنتاج والأرض وغيرها من الوسائل بما في ذلك التمويل والمشروعات الكبرى كالجزيرة، وهناك مفهوم ليبرالي ووصف هذا المفهوم بالنجاح!! وقد فات عليه أن الدول الرأسمالية ذات المفهوم الليبرالي تتعامل مع الغذاء الإستراتيجي فيها بالمفهوم الاشتراكي فأمريكا مثلاً تدعم القمح والمواد الغذائية الإستراتيجية الأخرى، وبذلك سيطرت على المخزون الإستراتيجي للقمح وهي تتحكم في أسعاره عالمياً، فما الذي يضير في النظرة الاشتراكية لإنتاج الغذاء الإستراتيجي، وروسياً أيضاً التي كانت تستورد القمح من أمريكا وكندا والأرجنتين تعاملت بذات النظرة الاشتراكية فتحولت من مستورد للقمح إلى منتج ومصدر لمصدر الغذاء الإستراتيجي الذي هو القمح، وقد ارتفع مخزون روسيا من القمح في العام الماضي إلى تسعين مليون طن وفي العام الذي يليه ونسبة لظواهر طبيعية قل المخزون هذا العام إلى خمسة وسبعين مليون طن. وعلى هذا المفهوم يصل الأمين العام للنهضة الزراعية إلى أن الزراعة التي ترعاها الدولة فاشلة، رغم أنف النجاح الذي أحرزته أمريكا وروسيا في هذا المجال. هذه الدول تضع نصب عينيها الأمن الغذائي لشعوبها وتدعم المحصول الغذائي الإستراتيجي حتى لا تقع فريسة للضغوط!! ثم يعود ليناقض نفسه بنفسه ويقول إننا بدأنا في المزاوجة بين المدرستين التي وصف إحداها بالفشل والأخرى بالنجاح، فما دامت المدرسة الاشتراكية فاشلة والدول التي عملت بها وقد حددها رومانيا ويوغسلافيا السابقة والاتحاد السوڤيتي الكبير ووصمها بالفشل فكيف يمكن أن يزاوج بين مدرسة فاشلة وأخرى وصفها بالنجاح وما دام الأمين العام قد وصف المدرسة الليبرالية بالنجاح فلماذا يترك نظاماً ناجحاً ويزاوج بينه وبين نظام وصفه بالفشل؟! ثم أخذ يغوص بنا في لجج من التناقض في الإجابة عن السؤال وأين التجربة السودانية من هذه التجربة المختلطة، أجاب بأن التجربة السودانية قائمة على النفير والعمل الجماعي «اشتراكية يعني» وهي من قيمنا الإسلامية «يد الله مع الجماعة» لأن القيمة الإضافية في الإنتاج بدلاً من أن تذهب إلى صاحب العمل الذي يمتلك وسائل الإنتاج أحسن تذهب إلى المجتمع، ثم يغوص في التناقض مع نفسه فيقول إن الجانب الليبرالي مهم لإطلاق طاقات الإنسان ولا تتحكم فيه الحكومة وهو سبب النجاح في أروبا والتي تستطيع تقييمها برفاهية إنسانها نتيجة للاقتصاد القوي والذي جاء من الإنتاج الزراعي!! هل فهمتم شيئاً من هذا التخبط والتناقض وهل قامت تجربة اقتصادية على النفير؟! والنفير أمر تفرضه الضرورة، لمواجهة كارثة طبيعية، أما أن تقوم النهضة الزراعية على النفير فهذا أسلوب جديد في الاقتصاد والنهضة الزراعية وفلسفة جديدة شبه له وحده دون غيره إنها تقود لنهضة زراعية متوهمة في خياله هو وحده!!. مزارع القمح في أمريكا وفي أوربا يلزم بزراعة القمح، وحتى لا يترك المزارع لتقلبات السوق ويتحول إلى زراعة محصول نقدي آخر تقوم الدولة بدعمه، وهو بجانب زراعة القمح يقوم باستثمارات أخرى على مخلفات القمح حيث يربي الماشية ويعلفها بسيقان القمح والتبن ويقوم ببيع إنتاجه الحيواني لحوماً كانت أم منتجات ألبان وهو مرتبط بزراعة القمح دوماً وكذلك بقية منتجات الأمن الغذائي، هل تستطيع النهضة الزراعية إغراء مزارع الذرة «المحصول الغذائي الإستراتيجي» بالالتزام بزراعة محصول الذرة دوماً؟! لا أعتقد لأن المزارع يملك وسائل الإنتاج ولن يزرع محصولاً لا يعود عليه بفائدة مادية والتي قال الأمين العام إنها تذهب للنفير والجماعة في الحين الذي لا تلتزم النهضة الزراعية تجاهه بأي التزام. تحدث عن الجمعيات الإنتاجية ولكنه خاض في نوع من الفلسفة التي ابتدعها هو ولم يبين لنا بالأرقام والإنتاج دائماً تدعمه الأرقام ونسبة النمو ولكنه تجنب الأرقام كما يجتنب المؤمن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، فسماسرة السوق لهم طرقهم وفلسفتهم في عملهم وقد نهض نشاطهم الاقتصادي بذات القدر الذي كبت فيه النهضة الزراعية، لأن ما يسمى بالنهضة الزراعية لم تأتِ بجديد لينهض بالإنتاج الزراعي!!. وما ذكره الأمين العام عن أن النهضة لا تنفذ بل تعطي الأفكار وترسم السياسات، كيف ذلك ما دمت قد تركت أمر التنفيذ للبنوك التي يهمها الربح فقط، والبنوك حين تمول مشروعاً لا تنظر إلى أفكار من جهة أخرى فلها أفكارها الخاصة والتي يتم تطبيقها وليست أفكار وسياسات النهضة الزراعية التي لا تسمن البنوك ولا تغني المزارع من سجن!! فليقل لي بأمانة الأمين العام للنهضة الزراعية ما حدث لأموال ما سمي بالنفرة الزراعية وقرينتها النهضة الزراعية والتي بلغت مئات المليارات ماذا حدث لهذه الأموال؟! صرفت وتحولت النفرة الزراعية إلى «نفخة» والنهضة إلى «نكبة»!!. واقف عند قوله لا نهضة زراعية مع وضع اقتصادي غير مستقر، ليجيبني الأمين العام كيف يستقر الاقتصاد؟! سأجيب نيابة عنه يستقر الاقتصاد بالإنتاج وفي حالته الإنتاج الزراعي، فما دام المواطن مؤمن غذائياً فإن جميع فروع الإنتاج الأخرى غير الزراعية ستنهض، وإذا كان الاقتصاد مستقراً وهذا يعني أن الإنتاج في ازدياد فلا داعي لنهضته الزراعية ولا داعي لفلسفته في مجال الإنتاج الزراعي والذي يتخبط فيه تارة بفشل النظام الاشتراكي والذي نسي فشله واستبدله بالنفير والجماعة وهو لا يزال بعد طول سنين يفكر في المزج بين النظام الاشتراكي والليبرالي ويخرج منهما بعد طول سنين بنظام لم يتبلور في ذهنه بعد!!. وإذا كان قد وصل إلى هذه النتيجة الحاسمة «لا نهضة باقتصاد غير مستقر» فلماذا بقي على كرسيه كأمين عام للنهضة الزراعية؟! أليست هذه عدم أمانة منه بعد أن اكتشف أن النهضة مستحيلة في ظل اقتصاد غير مستقر؟!. هل سأل نفسه يوماً ما عن كميات المياه الضخمة التي تستخرج مع البترول في المنطقة التي جاء منها؟ هل فكر في استغلال هذه المياه في نهضته الزراعية أقول إن حوالى مليون برميل ماء يستخرج يومياً من حقول البترول وهذا يعني ما يقارب ربع مليون متر مكعب من المياه العذبة الصالحة للزراعة والشرب بعد أن تُنقى من الكيماويات هذه المياه يمكن استغلالها في المراعي التي هي اليوم تسبب إشكالاً خطيراً بين دولتي السودان وجنوب السودان، فالمسيرية بأبقارهم يذهبون إلى جنوب السودان طلباً للماء والمرعى، واستغلال هذه المياه في المراعي والزراعة تغني القبيلة مشقة الترحال والاحتراب، وتحدث استقراراً للرعاة الأمر الذي ينعكس على ثروتهم الحيوانية فترتفع قيمتها في الأسواق جراء الاستقرار ويزيد إنتاجها وبهذا يستقر الاقتصاد، والاقتصاد يا هذا لا يستقر من فراغ إنما يستقر بالإنتاج!!.. ولم أسمع أو اقرأ يوماً ما عن اقتصاد استقر هكذا دون أن يدخل عامل الإنتاج سبباً في ذلك الاستقرار، وغير ذلك ضرب من ضروب أحلام اليقظة!! والسودان عندما يستقر اقتصاده ليس في حاجة إلى نهضة زراعية فاستقرار الاقتصاد دليل على نهضته الزراعية والصناعية، وفي هذه الحالة هو في غنى عما يعرف قولاً لا فعلاً بالنهضة الزراعية!!