كنت قد تناولت الروح التي تتقمص بعض بني الإنسان وتجبرهم على إبقاء الأحوال كما هى عليه، تعبيراً عن كراهية الجديد، والتمسك بالقديم، خشية أن يأتي الجديد بمصاعب، ويولد ظروفاً يصبح من العسير التعايش معها. فصاحب المزرعة المترامية الأطراف قد يحجب نظره عن المستقبل الواعد لمزرعته تصوره بأن الشريك الذى يمنيه بإعمار المزرعة، وتوفير الآليات اللازمة لزراعتها وجلب الفنيين والمهندسين لتطويرها، بأنه قد عرض عليه ذلك بسبب الطمع للاستيلاء على مزرعته وحرمانه من التصرف فيها، ويفضل إزاء ذلك الهاجس أن تبقى المساحة مسجلة في اسمه، وقد يقول فى سره كفى الله المؤمنين شرَّ الشراكة والشركاء، وتلك بالتأكيد نظرة قاصرة، وإحساس دفين ضد التجديد والتطوير، لا يجني مضارها سوى الذين تعربد في نفوسهم وساوس الإبقاء على القديم حتى وإن كان القديم فى طريقه ليتحول إلى إعجاز نخلٍ خاوية وهشيم تذروه الرياح فى مكان سحيق. ومن مضار الكنكشة وإبقاء الحال كما هو عليه، حسب الأمثلة المشهورة أمام الناظرين، أولئك الرجال الذين حازوا على مساحات شاسعة من الأرض وأشادوا عليها مساكن من الطين، فى زمانٍ لم يكن فيه البناء إلا بالمواد المحلية، وظل هذا الرجل متمسكاً بملكيته ومصراً على الريع الذى يجنيه مع تواضعه برغم ما طرأ من تغيير طال أسعار العقارات واستثماراتها. والمؤسف أن هذا الرجل قد بذل جهداً كبيراً فى تعليم أبنائه، لكنهم ظلوا حتى بعد وفاته، فى حالة جمودٍ يتقاسمون ريع المساكن دون أن يدفعهم التحدي لاستثمارات كان بالإمكان أن تعود عليهم جميعاً «أبناء وبنات» بالخير الوفير والرفاهية في أقصى درجاتها، وإنىِّ عندما أزور بعضاً منهم أحس بالأسى والحزن، حيث أنهم يقيمون في بيوت كالكهوف، ويقتاتون بأبسط أنواع الطعام، مع أنهم إن فارقوا حياة الجمود والتخلف، لأصبحوا من الأغنياء الذين يُشار إليهم بالبنان، وهؤلاء هم أعداء التحديث والتجديد ودعاة الكنكشة على القديم والالتصاق مدى الحياة بالوحل والطين. وفي الشأن السياسي، تحدث الكنكشة، والإصرار على البقاء في قيادة الأحزاب السياسية حتى بذهاب الألق السياسي، وحلول الخرف الفكري، ومن ثم يتحول الحزب من آلية فاعلة للحركة الجماهيرية والشعبية، إلى قباب دفن فيها الأموات، وإلى أشباح هم أحياء كالأموات، وإذا قدر لمثل هؤلاء أن يقودوا دفة وإدارة الدولة لعجزوا عن تسيير شأنها، ذلك لأن السيارة القديمة لا تستطيع قطع المسافات الطويلة الوعرة، الأمر الذي حدا ببيوتات صناعة السيارات والمعدات الثقيلة أن يطوروا صناعتهم بحيث تتسلسل الموديلات. والسياسة أيضاً ليست بمعزل عن مقتضيات التجديد والتحديث، وتجنب اتجاهات الكنكشة من قبل الذين فات عليهم الفوات، ورحم الله الذين يعملون بقول السلف الصالح في شأن الدين وتجديده عندما قالوا إن هذه الأمة موعودة بالتجديد والتحديث على رأس كل قرنٍ من الزمان. فيا دعاة الكنكشة والجمود في مربعات قديمة أرحمونا يرحمكم الله.