أستطيع أن أحصي عدد الساعات والأيام والشهور والسنين، وأكاد أجزم أنها تعادل دهراً كاملاً قضيته على سريري بعد أن أقعدني ذلك الحادث المروري عن الحركة ودفع بي من طاولة المستشفى إلى هذا السرير المصلوب بالقرب من النافذة في غرفة ذات أربعة جدران في الطابق الثالث. ولكن التاريخ الذي الذي دونته بالقرب من سريري يقول إنني قد قضيت عاماً ونصف بالرغم من أنني أحس بالدقائق بل بالثواني وكل منها يمتص ببطء قاتل من الزمن المتبقي لي والذي سأقضيه هنا. ما بين سريري والنافذة مساحة هائلة من السأم والكآبة كل ما يربطني بهذا العالم هو نافذتي المطلة على الميدان الذي تقف على جانب منه بنايتنا... وأختي التي تقوم بخدمتي والأهل الذين يتوافدون من وقت لآخر، والذين قلَّت زياراتهم في الآونة الأخيرة بسبب أزمة المواصلات. ولكن النافذة ظلت هي صلتي الوحيدة بالعالم الممتد أمامي. في البداية كان كل شيء يبدو كمسرح كبير... الحركة التي تبدأ مع الفجر بصوت الأذان والأبواب التي تفتح وتغلق عندما يغادر المصلون منازلهم لصلاة الصبح، ويزداد الصخب والضجيج في منتصف النهار... ثم يخفت عندما يهبط الليل مفسحاً المجال للمعارك التي تندلع بين الكلاب والقطط وهي تصطرع حول القمامة... وربما صوت مذياع تبحث أصابع صاحبه عن محطة تبث بعض الأغاني الحزينة في منتصف الليل. تحيط بالميدان بعض الحوانيت الصغيرة وتنغرز على جوانبه أعمدة الكهرباء والتلفونات وشجرة المهوقني الضخمة التي تنتصب بالقرب من نافذتي وهي تحتل مكانها على الميدان وعلى الرقعة التي يتمدد فيها مجالي البصري خلف النافذة. المنظر لا يتغير وزمن المسرحية يسير ببطء ممل ولذلك فإن العام ونصفه الذي قضيته هنا يساوي عندي دهراً كاملاً. ولكن عندما حملت إلينا الرياح هذا العام رائحة المطر حط على شجرة المهوقني طائر من طيور السمبر بساقيه الطويلتين وحطَّت معه أنثاه كخاطر يأتي متسللاً بعد غفلة. ومثلما كانت الأشياء تنام على حافة ذاكرتي.. لا أسترجع منها إلا ما يسقط ثقيلاً كالهم، فجأة تبدل كل شيء، فبعد أن حط طائر السمبر وأنثاه رحالهما على شجرة المهوقني... شعرت بمجال رؤيتي يتمدد، وكأنني أعيد اكتشاف الأشياء لأول مرة... الأشجار وأوراقها، والطيور الصغيرة، والمصابيح التي تومض في الليل ببريق خافت والرياح التي تثير جنون الأشجار فتفقدها وقارها... وكانني أعيد اكتشاف ذاكرتي الغائبة عن الحنين والدفء.. والمواعيد التي ترفض التوقيت وتخرج عن إيقاعات الزمن الرتيبة. أصبحت مشدوداً ببصري نحو شجرة المهوقني وأنا أرقب طائر السمبر وهو يبدأ بتفقد المكان وشعرت بأنني مثل حارس العمارة... أود من صميم قلبي أن يستأجر هذا الساكن الجديد تلك الشقة... فأخذت أطوف به أنحاء الشجرة. تستطيع ياصديقي أن تقيم عشك هنا... انظر... هذا فرع متين، وهذا الفرع الجانبي يريح العش عندما تضع عليه العيدان وتغطيه بالأعشاب والريش، ثم إنه يسمح بدخول الشمس بالصباح وعند غروبها فقط... ويحجب الريح عن البيض والصغار الذين سيخرجون منه بعد ذلك، إن شاء الله، ويفرحون قلبيكما. ولأنني رجل فأنا أدير الحديث مع الطائر الذكر وأعقد معه الاتفاق بينما أتلطف مع الأنثى... فهي لا شك ستتبع زوجها فيما سيقرره. وشعرت بأن طائر اللقلق ذلك لن يكون كالمستأجرين المناكفين فمنقاره الطويل ونظراته الهادئة تكسبه وقاراً طبيعياً يجعلك تحترمه وتثق فيه. وتمت الإجراءات بسرعة... وطار الزوجان لفترة ثم عادا والزوج يحمل في منقاره عودًا سرعان ما ثبته على فرع الشجرة. ليس هناك زمن يضيعانه في التردد.. وقد استمرت عملية بناء العش عدة أيام. يطير الزوج ثم يعود وعلى منقاره بعض العيدان التي يضعها تحت قدمي أنثاه فتثبتها في مكانها. الغرف ذات الجدران الأربعة... التي أعيش فيها وأنا أعاني من توقف الزمن... فجأة تمددت واحتوت في داخلها شجرة المهوقني بطيورها وكل العالم المحيط بها. وأصبحت أعرف كل شيء عن طائر السمبر... أراقب أنثاه وهي تضع البيض، ثم تجلس عليه بالتناوب مع زوجها ثم أشهد مولد الصغار وهم يخرجون من البيض في اختزال مدهش للزمن. فأرى تحت بصري عالماً يتفجر حيوية ونمواً.. وشعرت بأنني أعمل سكرتيراً لطائر السمبر وعائلته... أخاطبه فيسمعني، وأحدد له المقابلات وأسمح بدخول الهواء إلى ريشه الأبيض وأذكره بموعد إطعام الصغار فيطير بعيداً إلى الحقول فأطير معه متخطياً حدود سريري ونافذتي التي أطل منها. هذا الصباح طار إلى الحقل الذي يقع على أطراف المدينة... فكل طيور السمبر تطير إلى هناك. ذلك الحقل الذي قضيت فيه طفولتي وأنا أطارد الفراشات والجراد.. لابد أنه قد حط على حافة ذلك الجدول ورأى صورته ومنقاره الطويل على سطح الماء. فقد كنت أعجب من شكلي وهو منعكس على صفحة الماء وعندما يهتز الماء كانت صورتي تهتز ويتغير شكلي وتنمو على رأسي تعرجات وأذني حمار... فأضحك كثيراً. من مكانه ذلك سيلمح الضفادع مختبئة تحت أحجار الجدول وسيتمكن من التقاطها وسيسير على حافة الجدول ثم يصادف جراداً كثيراً فوق أوراق شجرة الخروع التي كنت ألتقط منها الثمار فاحملها إلى جدتي ولم أكن أعرف ماذا كانت تصنع بها. ويحلق الطائر بعيداً محمولاً على التيارات الهوائية إلى الأعالي... لا بد أنه يحس ببرودة الهواء هناك... ولا بد أنه يرى الأرض مسطحة تنعدم فيها التفاصيل وكل شيء يبقي ملتصقاً بظله على الأرض ثم يعود بعد يوم حافل من الصيد والهواء النقي الذي يملأ رئتيه. الليلة البارحة، هبت الرياح بعنف.. اقتلعت شجرة كافور كانت تتطاول بقامتها الفارعة على إحدى البنايات الواقعة خلف الميدان. ولكن شجرة المهوقني صمدت بعد أن ظلت فروعها تتمايل مع الهواء وهي تزأر مع عويل الريح، وتقذف بطائر اللقلق إلى أعلى فيطير بعد أن يفقد توازنه ثم يعود هابطاً مرة أخرى بينما انزوت أنثاه جالسة على صغارها. ويزداد عنف الريح وترتطم شبابيك النوافذ مع بعضها ومع الجدران محدثة جلبة هائلة... ظللت أراقب الطائر وهو يصارع الريح ويمتطي صهوة موجاتها العارمة حتى الفجر... عندما انسحبت الريح تاركة هدوءاً مفاجئاً. واليوم على غير عادته.. لم يبارح مكانه بالرغم من أنني أخطرته بموعد إطعام الصغار... لا بد أن ليلة العاصفة قد أنهكته... غير أني قد لاحظت أنه يطير منقضاً بجناحيه على فرع من الشجرة، ويكرر تلك الحركة وهو يرسل قعقعة عالية تخرج من منقاره. ولمحت حدأة تقف على نفس المكان وهي تطير مبتعدة ثم تراوغ الطائر وتهبط بالقرب من العش وقد ركزت عيناها على الصغار. ولمحت الصغار وقد تكومت أمهم عليهم بينما ظل الطائر منتبهاً لكل حركة تصدر من الحدأة. عيناها القويتان، ونظراتها الحادة، ومنقارها الجارح، ومخالبها التي تنغرس في لحم الصغار فتنزع منها الحياة... وفوق ذلك صبرها على البقاء في مكان واحد دون حراك لساعات طويلة، تنتهز فرصة أي غفلة وتراخ فتنقض على الصغار وفي لحظة خاطفة ينتهي كل شيء. ولكن الطائر بقي مسمراً في مكانه ولأول مرة شعرت أن ذلك الطائر يخفي تحت ذلك الوقار طبعاً شرساً مقاتلاً.. وأنه لن يؤخذ على حين غرة وإذا كانت كل الطيور ممن يؤكل لحمه فهذا الطائر ليس منها. وأخيراً... تطير الحدأة مبتعدة... وتزول حالة الطوارئ وترتخي الأعصاب المشدودة... ولمحت الطائر وهو يقترب من الصغار ويربت عليها بمنقاره في حركات سريعة تعيد لها الأمن والطمأنينة. نظرت إلى فطوري الذي ظل في مكانه ذلك منذ أن أحضرته أختي. لابد أن يكون قد تجمد وأصبح بارداً. وهدأت أعصابي بعد أن تناولت كوباً من عصير البرتقال... أختي تغمغم: ألا زلت تصر على التقليل من الطعام حتى لا تضطر إلى قضاء الحاجة؟ وهل يكفي عصير البرتقال فطوراً لك؟ وشعرت براحة تسري إلى أعصابي المتوترة من أحداث الليلة الماضية ومعركة هذا الصباح مع الحدأة. وأخذتني غفوة لا أدري كم مضى عليها.. غير أني قد صحوت في الظهيرة على صوت جلبة وضوضاء وأصوات ماكينة وصياح عمال. نظرت من خلال النافذة... كان هناك رجل يقف على تراكتر ضخم وهو يوجه عمالاً يقومون بحركة تحت الشجرة... بينما طار السمبر محلقاً حول الشجرة... ولأول مرة أرى الأنثي وقد تخلت عن صغارها ووقفت على فرع جانبي ترقب الموقف في قلق ظاهر. وصحت بفزع وصوتي يخرج كاستغاثة مجروحة تخترق طبلة أذن الرجل: ماذا تفعلون؟؟؟ في البداية لم يفهم الرجل سؤالي أو لعله لم يسمعه ولكنه أثار انتباهه. فكررت سؤالي وتبرع أحدهم كان يقف قريباً من النافذة فأوصل سؤالي للرجل الذي رد قائلاً: نقطع الشجرة. وبكل فزع العالم صحت وأنا أكاد أختنق: ولكن لماذا؟ أجاب: سيقيمون مكانها سيوبر ماركت. «القصة التي فازت بجائزة الإذاعة البريطانية لعام 1993م».