تقديم: طارق الطيب كاتب سوداني من أب سوداني وأم مصرية. انتقل طارق إلى فينا بالنمسا.. وأصبح كاتباً معروفاً في أوروبا قدم له الطيب صالح مجموعته (الجمل لايقف خلف اشارة حمراء) والتي اخترنا منها هذه القصة بداية الصيف عزلة فرضتها على نفسي عمداً. سمحت حالتي المادية الميسورة بالسكن في هذا الحي الهادئ البعيد عن مركز المدينة، في شقة واسعة بأعلى طابق من مبنى حديث. أشهد من علٍ جمال المدينة، وأستمتع بهدوء وحدتي. حين يأتي المساء وتلبس المدينة ثوب السهرة، ويغوص الهدوء في سكون خاشع تنقطع صلتي بالعالم نهائياً. أطفئ الأنوار وأتحد مع رهبة الظلام في صلاة عشق حزينة. في الصباح أقف خلف زجاج غرفة المعيشة المانع للضوضاء، أشهد سكون الساكن، وأتبع حركة المتحرك أتحد مع الطبيعة بطريقتي. أقرأها من خلف الزجاج، ولا أسمح لأذني بالتصنت حتى لا أفسد ما يدور في مخيلتي من حوارات أختلقها وأركبها كيفما شئت لمن وما أرى. الجو يتقلب، والحرارة تشتد أحياناً، ولا مناص من فتح النافذة في بعض الأحيان لتغيير الهواء الحار ببعض النمسات المنعشة، لكن يبدو لي العالم مختلفاً. يفرض وجوده على عزلتي، وتغلب حاسة السمع على بقية الحواس، تجبرني على الإنصات، فأسمع شقشقة وحفيفاً ونباحاً، وضجيجاً لمحركات عربات لا إراها. تتكرر الحكاية كل يوم، وتتكرر الأصوات، فتفسد صفاء عزلتي، وحين أغلق نافذتي، أنظف غرفة المعيشة جيداً من غبار الخارج، أعيد اللمعة المثيرة لأرضية الحجرة الخشبية كما كانت. آتي بالدهان وأقضي وقتاً طويلاً ألمع الأرضية، رغم أنها لم تتأثر كثيراً من فتح النافذة، إلاّ أن إحساساً دائماً يسيطر على بأنها قد تغيرت ولا بد من إعادتها كما كانت. فتحت يوماً النافذة للتهوية، وبالطبع أجبرت على الإنصات. هناك تغيير ما قد حدث. صوت جديد طغى على مجموعة الأصوات التي أسمعها. كان هديلاً واضحاً. أخرجت رأسي من النافذة، وجدتها بالقرب منها تمشي على حافتها العريضة جيئة وذهاباً، وتحرك عنقها إلى الأمام والخلف في حركة تسبيح منتظمة تتماوج فيها ألوان طيف رقيقة على عنقها. بقيت ارقبها محاولاً ألا آتى بحركة مفاجئة كي لا تطير. ظلت تنظر إلى وأنظر إليها وقتاً طويلاً. والمسافة بيننا ثابتة. استغراب مني وخشية منها. دخلت لأحضر لها شيئاً تأكله. حين عدت لم أجدها. ظهرت في اليوم التالي في الوقت نفسه، وفي المكان نفسه وقفت. كنت قد جهزت لها بعض الحبوب آملاً عودتها. وضعتها لها على حافة النافذة، فكرت طويلاً، تقدمت ببطء، ثم أكلت. صارت تأتي كل يوم في الموعد نفسه، وتتجاوز بالتدريج حدود الخشية الوهمية. تعودت عليها وألفتها أصبحت أنتظرها. الخريف كلما أتت كنت أترك النافذة مفتوحة وأبتعد قليلاً لأسمح لها بالدخول. ظلت أياماً مترددة وبعد معاكسات الريح، وتناثر الحبوب من حافة النافذة مع الهواء، دخلت خائفة مني، مستعدة للهرب في أية لحظة. تعودت مع الأيام عند حضورها على الدخول مباشرة إلى غرفة المعيشة، ومن الأكل الذي حفظته لها تأكل بسرعة وهي تراقبني، ثم تعود بسرعة لتقف على النافذة. تكررت الحكاية حتى تعودت البقاء لوقت أطول معي، فخصصت لها ميزانية أسبوعية لإطعامها. نجحت في إجباري على تغيير عادة الانغلاق التام تجاه الخارج. نجحت في إجباري على إعادة استعمالي لحاسة السمع على نحو جديد. غيرت من عالمي وحببتني سماع الهديل. أسعدني أن تكون لي صديقة تزورني كل يوم. تطمئن على حالي، وضايقني منها حريتها في الهروب إلى الفضاء الواسع كلما أرادت بلا استئذان، وجرتني الصداقة إلى التعود، والتعود إلى الرغبة في الاستحواذ. خططت لإبقائها معي في شقتي الواسعة دون إن تهرب كل يوم إلى الفضاء. حين أتت في اليوم التالي، كانت الخطة جاهزة: استدراجها للدخول أولاً، ثم عدم السماح لها بالخروج بعد ذلك. جاءت ودخلت، أغلقت النافذة. أصيبت بالهلع وظلت تطير في الغرفة في دوائر مجنونة وترتطم مرات بزجاج النافذة المغلق. ثم وقعت على الأرض في ركن الغرفة البعيد عني. قدمت لها بعض الحبوب والماء، فلم تأكل ولم تشرب. كانت سعادتي في منتهاها تلك الليلة وأنا أعيد النظر من علٍ إلى المدينة النائمة في حلتها القاتمة المرصعة بالجواهر المتلألئة، وقد لأغلقت نافذتي مرة أخرى ومعي صديقتي. كانت خائفة تطير إلى أبعد ركن في الغرفة كلما اقتربت منها. تركتها في الغرفة وأغلقت الباب. إستيقظت في اليوم التالي مبكراً على غير عادة وذهبت لأصبح على صديقتي، صُدمت فيما رأيت، الغرفة النظيفة التي ألمعها كل يوم صارت في ساعات قليلة كحظيرة الدجاج، انتثرت الحبوب في كل مكان، وانسكب الماء على الأرض. بقع فضلات هنا وهناك. بقايا ريش وزغب في أماكن مختلفة ورائحة غريبة تنبعث من المكان. ثرت عليها وحاولت الإمساك بها. طارت في الغرفة بجنون وانتشرت بعض ريشاتها وسقط حوض أسماك الزينة فانكسر. زاد غضبي. فتحت النافذة وهددتها بصحيفة كانت في يدي وأنا اسبها بأحط الكلمات. طارت وحلقت في الفضاء في دائرة كبيرة قبل ان تهبط بين الاشجار البعيدة. تابعتها بلعناتي حتى اختفت. عدت إلى الحجرة، وجمعت زجاج الحوض المكسور، ولملمت الاسماك التي ماتت ووضعتها في المزبلة. أحضرت أدوات التلميع وبدأت في تلميع الغرفة من جديد. بعد الظهر هدأت ثورتي. فتحت النافذة انظر لعلها أتت. لم أعثر لها على أثر. بحثت بعيني في كل ما حولي من ارض وفضاء. لم أر طائراً من الطيور. تركت النافذة مفتوحة، طول اليوم. في اليوم التالي. طوال الاسبوع . ولم تعد تأتي إلى ندمت على حماقتي وتمنيت لو تعود مرة أخرى. سأسمح لها بالبقاء ولتفعل ما تريد. كل ما علىّ أن أزيد من مرات تلميع الغرفة، ولا بأس من هذا، بل سأسمح لها بالبقاء على حافة النافذة ان أرادت. مرت الشهور طويلة كئيبة، وأملي معها يبرد كأيام الشتاء الآتية. الشتاء فتحت النافذة في هذا الصباح البارد بقصد تنظيف زجاجها الخارجي. سمعت الصوت الذي إنتظرته شهوراً يطغي على بقية الاصوات. عادت إلى مرة أخرى. كانت تقف على المسافة نفسها التي رأيتها فيها في المرة الأولى. شعرت بكل السعادة وقد عفت عني وعادت مرة أخرى. هرعت إلى الداخل أبحث عن طعام لها. عدت لم أجدها. تحيرت في امرى، هل ما رأيت حقيقة أو وهماً. قضيت النهار حزيناً. في اليوم التالي عادت ووقفت في المكان نفسه. بقيت أنظر إليها طويلاً لأؤكد لنفسي أنني أراها فعلاً ولم أتوهم، ثم ذهبت بسرعة لأحضر لها حبوباً. لم تتحرك من مكانها حين عدت. قدمت لها بعض الحبوب في خط يصل إلى داخل الغرفة حتى تدخل مرة أخرى إن أرادت لكنها أكلت ربع الخط الذي رسمته لها ووقفت مكانها على حدود الخشية الوهمية نفسها التي كانت عليها في الماضي. تلمست لها العذر هذه المرة، فأنا الذي بدأ بالغدر. لم أشأ إجبارها على الدخول واكتفيت بتأملها من بعيد. تكررت الأيام. تأتي ثم تطير لتأتي وتطير، ومسافة الخوف ثابتة. بدأ العام الجديد وبدأ الثلج ينهمر بكثرة. كانت تأتي إلى سريعة وتقف في مكانها. أقدم لها الحبوب. تأكل ثم تطير إلى الفضاء. تركت نافذتي أياماً مفتوحة علها تدخل من تلقاء نفسها. أبت الدخول وأصبت أنا بالبرد والسعال. مرة اضطررت إلى البقاء خارج المدينة يوماً كاملاً، وعدت متأخراً جداً. درجة الحرارة تحولت إلى درجة برودة في ذاك اليوم. كان الجليد يغطي الشوارع والثلج ينهمر بلا انقطاع. فتحت باب الشقة وخلعت معطفي وقفازي وحذائي الطويل الضخم وبقية الملابس الثقيلة، وجلست بالقرب من المدفأة انتظر سريان الدم المتجمد إلى أطرافي. »آه صديقتي، صديقتي، لقد نسيتها اليوم!« قلت هذا بصوت عالٍ لنفسي. قفزت من مكاني متعجلاً لأراها وأفتح لها وأنقذها من عذاب الخارج. كانت خلف النافذة مباشرة مغطاة بالثلج. فتحت النافذة بسرعة ونفضت عنها الثلج وأخذتها إلى الداخل. كانت جامدة كأني أخرجتها من ثلاجة. وضعتها على مخدة صغيرة جوار المدفأة متمنياً ألا تهرب منها الحياة. انتظرت طويلاً لم تتحرك تحركت دمعة كبيرة ساخنة من عيني. سقطت على ظهر إبهامي. شعرت بها كأنها حجر سقط على رأسي. وقفت قليلاً أنظر من خلف النافذة إلى الفراغ. لم أر شيئاً. كان الثلج يهطل بلا انقطاع. لبست ملابسي الثقيلة من جديد، وخرجت من الشقة لا أعرف إلى أين أذهب وماذا أفعل بها. تنبهت على صوت مغلاق الباب وأنا أغلقه خلفي بالمفتاح. كان هذه المرة أعلى من المعتاد. الراي العام