البليلة من أمتع واأكثر الوجبات الشعبية دسامة وحلاوة ومتعة وسهولة في الإعداد، وبساطة تتسع للغني والفقير وللفرد والجماعة.. فيها «اللمة» وفيها البركة والسعة، وعن طريقها تتفتح آفاق الخير والإنفاق وفي رحابها تحلو المجالس والحكايات وتتشرح الأسارير والابتسامات. البليلة ممتدة في استحواذها لمحبة الشعوب العربية المسلمة والشعوب الأخرى، فهي في العالم العربي تكاد تتمتع بالوجبة العربية المتحدة وتجدها في السودان ومصر والحجاز والعراق والكويت وسوريا والاردن وتونس وليبيا والجزائر والمغرب وكل سائر البلاد العربية. ولا يختلفون في أصل انتمائها «للغلال» على مختلف مع وهب الله سبحانه وتعالى من نعمة عطائه لكل بلد حسب مناخها، فهي تشكل من معظم الغلال والحبوب كالقمح والدخن والعدسي واللوبيا.. الخ ذلك مع اختلاف طرق الاعداد والطهي وتتنافس في حلاوة المذاق وروعة التحضير. وفي السودان احتلت البليلة مكانها في التاريخ وفي أسماء الناس وفي مجالس العلم.. في نار القرآن، فهي تقليد قديم في الخلاوي حيث اشتهرت تقابة القرآن ببليلة الأربعاء التي عرفها التلاميذ الصغار كما عرفها الكبار، وتتم بمشاركة تضامنية فريدة من نوعها حيث يتبرع كل تلميذ بإحضار ما تيسر له من الحبوب «الفترتية» أو غيرها ثم يجمع الصبية الحطب ويعدون البليلة وما أحلاها، والأهم انها ارتبطت بأجمل سنوات عمرهم والصبا وجدانياً. ثم شملت البليلة ببركتها هذه الساحة العظيمة «ساحة العلم والقرآن» فهي تراث سوداني اصيل درج الخيرون على أن يتصدقوا بها فعمرت ساحات المساجد ليجتمع حولها المصلون عقب صلاة الجمعة فقيرهم وغنيهم.. ثم بذلها البعض خالصة لوجه الله لكل عابر سبيل، فقد تجدها في الطريق صدقة جارية، وفي اعتقاد البعض أن بخارها الذي يتصاعد من «القدر» وهي تغلي يكف البلاء. ومن الأمثال الكثيرة التي عرفت عنها في السودان «كفوا البلا بالبليلة» وامثال أخرى مثل «بليلة مباشر ولا ضبيحة مكاشر». وإعداد البليلة في السودان له فنون، ومجال تنوعها بحمد الله واسع، فهي تتكون أساساً من غلال حبى الله بها هذه البلاد بأغنى العناصر الغذائية مثل العدسي واللوبيا والكبكبي والقمح والذرة ومنها الفريك، ثم بعد سلقها وغليها في النار يضاف إليها ما لذ وطاب من مدخلات تجعل البليلة وجبة غذائية كاملة الدسم والعناصر، فيضاف لها عسل النحل والسمن والزيت والبهارات والتمر، بل أن بعض الأكلات من البليلة اكتسبت شخصية مميزة وأصبحت اليوم تتصدر المطاعم الشعبية والمحال التجارية مثل «أم جنقر والمخبازة» وغيرها. أما البليلة الحجازية والمصرية فهي تتشابه، ففي مصر يتم اعداد البليلة بشكل اساسي من القمح المصري، ومن مدخلاتها الحليب والمكسرات بأنواعها كجوز الهند المبشور ومكعبات الزبدة أو قشطة الحليب: ويترنم البائع وهو في الطريق بأحلى أغانيها: بليلة بللوكي سبع جواري طبخوكي بليلة بللوكي وبالخل والكمون خللوكي في تونس يتغير اسم البليلة لكنه لا يغادر الحروف المكونة للاسم فهي تدعى «اللبلبي» أو «البلابي» وهي تشبه البليلة المصرية إلا أنها تضاف لها الهريسة احياناً أو البيض. وفي ولاية بنزرت بتونس اشتهر نوع من البليلة أو «اللبلابي» باسم «كسكروت اللبلابي» وهو عمل سندوتشات تسمى ايضاً سندوتشات اللبلابي، عبارة عن سندوتش محشو من الحمص المغلي والبهارات والهريسة والبيض والزيتون. وهنالك قصة شعبية طريفة تحكي عن رجلين تحابا في الله، وكانا يخرجان أحياناً لعدة شهور طلباً للعلم.. وكانا فقيرين إلا أن أحدهما وهو متزوج شغله هذا الجهد عن الاهتمام بشؤون بيته وزوجته الشيء الذي ترك عبئاً على الزوجة فعانت كثيراً من شظف العيش. وهذا لم يعجب الزوجة فغضبت لاهماله لاحتياجات البيت الإساسية. وفي يوم من الأيام والزوج غائب مع صديقه لعدة أيام.. احتارت الزوجة ماذا تعد من طعام لها ولعيالها فلم تجد إلا بعض «الحبوب» فغلستها ووضعتها في «القدر» ريثما توقد النار فكان عشمها أن تطرد الجوع ذلك اليوم بالبليلة. وفجأة وهي غائبة لتجمع الحطب والوقود عاد الزوج ومعه صديقه فدخلوا للدار ووجدوا القدر على المنقد ويبدو أنهما كانا جائعين. فقال الرجل صاحب الدار لصديقه: ما شاء الله.. الليلة المبروكة شدت ليها بليلة. في هذه اللحظة دخلت عليهما الزوجة وهما جالسان على برش وسط الغرفة فحياها الزوج وقال لها: المبروكة.. الليلة ما شاء الله شديتي لينا بليلة؟ فما كان منها وقد تملكها الغضب إلا أن رفعت القدر وهوت به في منتصف الدار.. فاندلقت البليلة وذهب ما فيها ثم خرجت. ابتسم الزوج ولم يغضب لفعل زوجته اما صديقه فقد زاده ذلك اعجاباً لسلوكها هذا وبدا له أن الصبر على مثل تلك الزوجة يزيده صلاحاً ويدخله الجنة فقال لصاحبه: يا سلاااام.. دحين زوجتك دي ما عندها اخت تخطبها لي؟ فرد عليه الزوج ضاحكاً والبليلة مشتتة حولهما قال انت محظوظ يا اخوي للدرجة دي؟ فما احلاها بليلة أختص بها الشهر الكريم ووجدت مكانها في موائده وتصدرت باحات المساجد وعمرت الطرق صدقة وأجراً، فلا غرو أن يتغني ويعتد بها: بليلة بللوكي سبع جواري طبخوكي بليلة بللوكي وبالخل والكمون خللوكي تصوموا وتفطروا على خير ونقول لأشقائنا المصريين: ربنا يزيل البلا بالبليلة