إلى زمن قريب كنت أستعمل كلمة «دلل» على وعيك البيئي في خاتمة عمودي كنوع من رسائل التوعية البيئية. ولكن الطالبة هبة الله إبراهيم محمد صالح قال لأمها: أستاذ اللغة العربية قال لنا «دلل» غلط والصحيح «دل». ورجعت للقاموس ووجدت ما قاله الأستاذ لطلبته صحيحاً، إذ أن «دلل» من الدلال، دلل ابنك، دلل زوجتك، إدللي ..إدللي.. كما كان يغني الفنان المرحوم العاقب محمد حسن. إذاً كنت مخطئاً طيلة هذا الوقت الذي بدأت فيه حملتي للتوعية البيئية منذ مدة طويلة على عمودي في جريدة «الخرطوم» عندما كانت تصدر من القاهرة. كم عدد الذين ضللتهم باستعمال الكلمة الخطأ؟ أقدم أسفي واعتذاري وما يشفع لي أنني لم أكن أقصد بل كنت جاهلاً بالكلمة الصحيحة التي ثبتها الآن في عمودي «دل» على وعيك البيئي. نحن نعلم أولادنا ولكننا أحياناً نتعلم منهم. أذكر أنني عندما كنت في المملكة العربية السعودية وفي حديث عن شخص معين وصفته بأنه «ملعون». ولكن ابنتي سامية وكانت في مرحلة الأساس في ذلك الوقت قالت لي: - أنت لا تقصد ملعون.. - قلت لها بالضبط ذلك ما قصدته .. ملعون وستين ملعون كمان. قالت لي: - ولكن ملعون كما درسناها في المدرسة تعني مطرود من رحمة الله، فهل أنت متأكد أنه مطرود من رحمة الله. ولأول مرة أشعر بفداحة ما تفوهت به. رحمة الله التي وسعت كل شيء.. هل أنا متأكد من أن ذلك الشخص مطرود منها؟ ومن أنا حتى أتأكد من ذلك؟ قلت لها يا بنتي خلاص.. تبت ولن أستعمل تلك الكلمة. وتذكرت حديث الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم : «إن المرء لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً فتهوي به في النار سبعين خريفاً.. وهل أكب الناس على وجوههم في النار إلا حصاد ألسنتهم؟» أو كما قال. نعم نحن نستعمل الكلمات دون أن نتفكر إلى أين تقودنا.. كم مرة وصفت شخصاً أنه ملعون؟ فماذا تقول إذا علمت أن «ملعون» تعني مطرود من رحمة الله؟ فهل أنت متأكد أن ذلك الشخص حقاً مطرود من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟ في السبعينيات كنت أستعمل كلمة «يتواجد» فأقول مثلاً: «هذا الحيوان يتواجد في منطقة الدندر» إلى أن صححني أخي وأستاذي البروفيسور الحبر يوسف نور الدائم قائلاً: «يتواجد» من الوجد والهيام وإظهار ذلك، ولكن الصحيح «يوجد» ومن يومها أنا لا أقول أن الطلاب والطالبات يتواجدون في القاعات الدراسية ولكني أقول أنهم «يوجدون» إلا إذا كنت أقصد أمراً غير ذلك. وعرفت أيضاً أن كلمة «هام» خطأ والصحيح «مهم» وأن «الخزينة» خطأ والصحيح «الخزانة» فتكون إذاً أغنية النعام آدم: الوابور والخزينة والمحطة يكاكي وزينا تصبح: الوابور والخزانة.. والمحطة ينوني ضبانا. ونستعمل كلمة «الوقفة» لنهاية رمضان.. بينما يقف الناس على جبل عرفات يوم التاسع من ذي الحجة. أما وقفتنا في نهاية رمضان لا أدري أين نقفها. إلا في السيد سعد قشرة. ونستعمل كلمة الزخم فنقول كان هناك زخم كبير ولكن أستاذي المرحوم الطيب محمد الطيب قال لي: الزخم في قاموس اللغة تعني اللحم المتعفن. ومن يومها أنا لا أقول الزخم إلا في ذلك الموضع. وعليه فإني سأستعمل كلمة «دل» على وعيك البيئي بدلاً عن «دلل» وأكرر اعتذاري. ويا أهل اللغة العربية أمانة عليكم ما تخلونا نسرح ونشطح وننطح اللغة وأنتم تتفرجون. صوبونا.. جعلها الله في ميزان حسناتكم بحق هذا الشهر الفضيل. لغة المراوغة والخداع بالطبع لا يمكن لأي متابع لمجريات الأمور في قضية الشرق الأوسط أن يتوقع نجاح مهمة وزير الخارجية الأمريكية جون كيري ولا مهمة غيره ممن يجدون أنفسهم في خضهم أحداث المنطقة حيث تغيب جميع خيوط اللعبة ولا أحد يدري من أين يبدأ. كثيرون أقروا بأنهم يزورون المنطقة للتشاور والاستكشاف وليس لإجراء مفاوضات وعلى رأسهم جون كيري. إن المراوغة التي يقوم بها الرئيس الإسرائيلي الحالي هي نمط سلوكي متأصل في الفكر الإسرائيلي، لأن حقيقية إسرائيل نفسها تقوم على المراوغة والخداع. فمنذ أن أتخذ مجلس الأمن قراره «242» الذي يقضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967م ظلت إسرائيل تراوغ وتجادل وتثير المغالطات في حقيقية نص ذلك القرار الذي صدر باللغة الإنجليزية والفرنسية، فقد اكتشفت إسرائيل بعقليتها المراوغة ثغرة في النصين مثلما اكتشفت ثغرة الدفرسوار في حربها عام 1973م ضد القوات المصرية في سيناء.. اكتشفت أن هناك نصاً ولعله النص الإنجليزي يقول «الانسحاب من الأراضي المحتلة» بينما يقول النص الآخر: «الانسحاب من أراضٍ محتلة».. وغياب أداة التعريف « ال» في النص الأخير كانت كافية لأن تمتنع إسرائيل عن تنفيذ ذلك القرار طيلة هذا الوقت. وعندما نصت اتفاقية أوسلو على مبدأ «الأرض مقابل السلام» ارتفعت حرارة المراوغة عند أحد المسؤولين الإسرائيليين قائلاً: ٭ نعم لقد وافقنا على هذا المبدأ ونحن نراه الأصوب في حل مشكلتنا مع العرب، إذ أنه يفرض على العرب أن يعطونا الأرض ونحن نعطيهم السلام. ويجتهد مسؤول آخر ويحرز انتصاراً ساحقاً في مجال المراوغة على الأول فيقول: ٭ نعم الأرض مقابل السلام.. فالأرض مقابل السلام والسلام مقابل السلام وبما أن العرب لا يملكون أرضاً يعطوننا إياها لأن كل الأرض هي جودية والسامراء اليهودية، فإننا لا نستطيع أن نعطيهم السلام مقابل شيء هم لا يملكونه. إن كل أساليب المراوغة والخداع هي إستراتيجية إسرائيلية المقصود منها أن تكسب زمناً يصبح فيه احتلالها للأراضي العربية أمراً واقعاً.. لأن فرض الأمر الواقع يأتي من خلال عجلة الزمن، وبما أنهم يمتطون صهوة تلك العجلة فهم الذين يحددون ملامح ذلك الأمر الواقع، وهم يعملون بمبدأ «ما عندي هو ملكي».. وما عندك قابل للتفاوض» Mine is mine. Yours is negotiable ولهذا عندما صرح أحد المسؤولين الإسرائيليين وقد كان يعمل مستشاراً ذات يوم لبنيامين نتنياهو الرئيس الإسرائيلي قائلاً: ٭ إننا نقبل بالتفاوض والحوار مع سوريا ولكن يجب ألا يكون ذلك من أجل التخلي عن هضبة الجولان. ويحق لنا أن نتساءل: ٭ على ماذا إذن يكون الحوار والتفاوض؟ هل يكون للتحية والمجاملة وأصدق التمنيات بالسعادة والجو الرطب؟ وهم في تعنتهم ومراوغتهم ينسون أنه إذا كان صعباً عليهم اتخاذ القرار المناسب والانسحاب من هضبة الجولان التي احتلوها عام 1967م وزرعوا فيها مستوطنات يقطنها «14» ألف إسرائيلي، فإنه من باب أولى أن تجد سوريا أنه من المستحيل أن تتخلى هي عن هضبة الجولان التي هي أرضها ولم تغتصبها من أحد. إن سياسة حكومة الليكود المتطرفة جعلت لغة المراوغة والخداع تبدو وكأنها مصطلحات مقبولة في قاموس السياسة الدولية، بل ومررت بها الكثير من مشروعاتها في مجلس الأمن والأمم المتحدة وخاصة عند انلاع الحرب اللبنانية الأخيرة. آخر الكلام: دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشتر ولا تهد هدية مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سن الفيل، وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أو تعبر الشارع، وأغلقه أو اجعله صامتاً وأنت في المسجد.