عندما قال رئيس البعثة المشتركة للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة «اليوناميد» بدارفور محمد بن شمباس في الخامس والعشرين من يوليو الماضي إنه بصدد القيام باقناع قادة الحركات المسلحة غير الموقعة للسلام للجلوس حول طاولة المفاوضات لتكتمل عملية السلام في دارفور، فإن ما تراءى من هذا الحديث مساع إيجابية بلفتة من بن شمباس تصب في صالح البعثة المشتركة، ولكن عند النظر لجانب آخر نجد أن إعلانه عن نقاشه مع رؤساء يوغندا وتشاد وتنزانيا بهدف اقناع حركات دارفور بوقف العنف والتفاوض مع الحكومة السودانية بدون شروط، لأن عملية السلام فى دارفور لا تزال غير مكتملة دون ضم الحركات المسلحة الأساسية، مثل حركة تحرير السودان بقيادة مني مناوي، حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد النور وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، يجد القارئ للأحداث أنها أخذت منحى آخر متعلقاً بحالة العداء التي يحملها الرئيس اليوغندي موسفيني تجاه السودان، وهو بلا شك أمر يقلل من فرص السلام الحقيقي ويحوله إلى تآمر حقيقي نظراً لنوايا الرجل تجاه السودان.. نفي وترقب من جهتها نفت حركة تحرير السودان بقيادة مناوي على لسان المتحدث الرسمي باسمها عبد الله مرسال أن تكون قد تلقت دعوة صريحة من رئيس البعثة لإجراء مشاورات، وأكد أنهم كحركات لا يمانعون مقابلته لطرح رؤيتهم لحل القضية السودانية حلاً شاملاً. وأضاف مرسال: «لم نتلق هذه الدعوات ولكن هنالك إشارات للقاء مرتقب لم يُحدد مكانه أو تاريخه». ترتيبات موسفيني.. مبادرات مفخخة الترتيبات التي يقودها موسفيني تعيد للأذهان المبادرة التي طرحتها «الإيقاد» من حيث أن الجانبين كانا الحكم والخصم في ذات الوقت، وهي التي وضعت السودان في مأزق تأريخي لا تزال الخرطوم تتمنى الخروج منه، حيث مررت دول الإيقاد أجندتها خلال القمة التي انعقدت بخصوص الوساطة في العام 2002م وضمت معظم دول المنطقة الإفريقية التي لم تكن لها علاقة جيدة مع الخرطوم، وعلى الرغم من ذلك شاركت الخرطوم فيها وقبلت بالمبادرة وقبلت إعلان مبادئ الإيقاد في العام 1997 بعد أن رفضته في العام 1994، وهو الذي يدعو لقيام دولة علمانية، فهل ستفعلها الحكومة مجدداً وتعيد رسم السيناريو مجدداً وترضخ لوساطة كمبالا التي أتت بمبادرة فحواها التوسط بين الجبهة الثورية والحكومة؟ وهل تسلِّم الحكومة السودانية رقبتها لموسفيني، وتعيد سيناريو مأزق الإيقاد؟ وفي حديث سابق ل «الإنتباهة» أكد السفير عثمان السيد أن أية وساطة يجب أن تكون لها أرضية أهم ما فيها الحيدة والموضوعية والشفافية، فإذا حاولنا تطبيق هذا على كمبالا فلن نجدها في الحكومة اليوغندية، التي هي أس وأساس البلاء على السودان، لذا فلا يعقل بأي حال من الأحوال أن تكون كمبالا وسيطاً في مشكلة هي التي تسببت فيها، ويضيف السيد بأي حال من الأحوال لن تقبل الحكومة بأن تكون كمبالا وسيطاً، فالرئيس اليوغندي موسفيني ظل يستهدف السودان باستمرار في اجتماعات القمم الإفريقية ويهاجم السودان بطريقة تخالف الأعراف والمواثيق الدولية، بما فيها القمة التي استضافتها كمبالا والتي قال فيها: «آن الأوان للقمة الإفريقية لرفع الحصانة عن الرؤساء»، ويواصل السفير الحديث أن شخصاً مثل موسفيني ليس مؤهلاً أن يلعب دوراً فاعلاً في المنطقة وإفريقيا. فقد ظل عميلاً لأجهزة المخابرات الأمريكية. مطالب متكررة ونجد أن مطالب حركات تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد النور، وتحرير السودان بقيادة مناوي، والعدل والمساواة بقيادة جبريل تتواتر دوماً في سعيهم لعدم تجزئة حلول المشكلة السودانية وعدم عزل الأزمة في دارفور عن باقي الأزمات السودانية الأخرى، وذلك على حد قولهم. توترات متجددة والمتتبع لقصة توتر العلاقة بين الخرطوم وكمبالا يجدها بدأت قبل عشرين عاماً ورغم طول المدة فإن ذلك لم يقض مضجع الخرطوم كما هو كائن الآن، فكمبالا هي الجارة الوحيدة التي أيدت قرار المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس البشير ودعمت انفصال جنوب السودان، ورفضت اتفاقيات مياه النيل السابقة، لكن قدوم الإنقاذ جعلها تشعر بالخطر والتهديد الذي انتاب الرئيس موسفيني بعد استلام الإسلاميين للسلطة في السودان والمعارضة في الصومال بدعم من السودان بحسب المفهوم اليوغندي إلى جانب التراكمات الكبيرة التي بدأت منذ طلب موسفيني من الإدارة الأمريكية إنشاء منطقة عازلة بين السودان ويوغندا«بما فسر بأنه مخطط يوغندي لدعم إنشاء دولة في جنوب السودان» فكان هذا الطلب القشة التي ربما قصمت ظهر العلاقة المتأرجحة أصلاً، ودفعت بالعلاقة إلى حافة التوتر حتى وصلت إلى دعم كمبالا للحركات المسلحة بدارفور وإيوائها وتأليبها على حكومة الخرطوم. كما أن خبر موافقة الرئيس اليوغندي يوري موسفيني على إقامة قاعدة عسكرية لحركة العدل والمساواة بيوغندا أثار غباراً كثيفاً على الساحة السياسية السودانية، وكاد يفتح صفحة جديدة من «التوتر» بين الخرطوم وكمبالا لولا مُسارعة حركة العدل والمساواة إلى نفي تلك الاتهامات. وكان هذا الخبر بمثابة أزمة جديدة كادت تلقي بظلالها على العلاقات السودانية اليوغندية السيئة حتى تزداد سوءاً، فالعلاقة بين السودان وكمبالا دائماً ما تتعرض «للهزات والانتكاسات» المفاجئة. مصالح مشتركة ومن الواضح أن المصالح الأجنبية هي المحرك الأول والأكبر للعلاقة بين الخرطوم وكمبالا، خاصة أن هناك شعوراً من حكومة الرئيس يوري موسفيني بالتهديد والخطر بعد استلام الإسلاميين على السلطة في السودان والمعارضة في الصومال بدعم من السودان بحسب المفهوم الأوغندي.. التي أكدها الخبير الإستراتيجي د. محمد حسين أبو صالح خلال حديثه ل «الإنتباهة» بقوله إن موقف موسفيني العدائي للسودان تحركه أجندة خفية ومصالح إقليمية يوغندية أمريكية على وجه الخصوص، مشيراً إلى أنه مخطط لتفتيت السودان بعد فصل الجنوب بالتركيز على المناطق ذات الموارد الطبيعية كإقليم دارفور وأبيي وجبال النوبة والنيل الأزرق، مؤكداً أنها ليست وساطة بقدر ما إنها إستراتيجية جديدة تسعى لتفتيت السودان وتقسيمه لنهب خيراته وأنه على يوغندا تعديل مواقفها السلبية حتى لا تكون مطية لجهات معادية تستخدمها في تنفيذ أجندتها الخاصة بها. بعيداً عن الحدث نفسه، فإن ثمة ما يدعو للاعتقاد أن ضغوطاً تمارس على كل أطراف المنطقة المتوترة لإحداث استقرار سريع وعاجل، وهو الأمر الذي أشارت له الجهات الأمنية اليوغندية سابقاً، لتفسير خطوة منع الاجتماعات، دون تحديد الجهات التي تمارس الضغط، ما أثار حيرة وارتباك الدوائر الرسمية في الخرطوم.. وعبارة الضغوط التي وردت في ثنايا التبرير اليوغندي في وقت سابق مطموسة الأطراف والملامح والتحديد، ورُجّح أن يكون سر التغيير اليوغندي المفاجئ تجاه الحركات مدفوعاً بتغيير النظرة والإستراتيجية الأمريكية تجاه السودان وبالتالي إذا تغيرت إستراتيجية الولاياتالمتحدة فمن باب أولى أن تغير يوغندا أيضاً طريقتها. هذه التبريرات السابقة للموقف اليوغندي في صدور قرار بتجميد النشاط السياسي للمعارضة السودانية بكمبالا من الأجهزة الأمنية، إضافة لمهلة الابعاد، أسست طبقاً للمحللين لدخول الحركات المسلحة في حالة من الحيرة والارتباك من توقيت القرار، وأرجع خبير أمني فضل حجب اسمه أن يكون ثمة اتفاق سري بين الخرطوم وكمبالا ربما تكون ضحيته الحركات، وثمة طرف ثالث في المعادلة حريص على القرار. حسن النوايا بالرغم من التوترات المبطنة والمعلنة إلا أن الحكومة أكدت استعدادها لإقامة علاقات طبيعية وطيبة مع دولة يوغندا حال توقفها عن استضافة اجتماعات الحركات المسلحة على أراضيها، وأقرت وزارة الخارجية باستعانتها بالمنظمات الإقليمية لتقريب الشقة بينها وكمبالا حينما لم تجد استجابة من الأخيرة لحل القضايا المشتركة ثنائياً، وقالت إن تلك الخطوة تأتي من باب النصح والإصلاح، وقالت إن يوغندا ترأس المؤتمر الإقليمي للبحيرات العظمى وعضو في مجلس الأمن والسلم الإفريقي الأمر الذي يحتم عليها ألا تسمح بوجود الحركات بأراضيها. انتفاء عوامل الثقة غير أن محللين سياسيين يرون أن مصالح أجنبية هي المحرك الأول والأكبر للعلاقة بين الخرطوم وكمبالا، وأن وجود التراكمات الكثيرة دفعت بالعلاقة بين الدولتين إلى حافة التوتر، متوقعين تواصل التوتر في ظل ما أسموه «المهددات التي يتوقعها كل طرف من الآخر» غير مستبعدين تواصل اختلاف الرؤى بين الجانبين على الأقل في الوقت الراهن «لانتفاء عوامل الثقة بينهما». رفض مبادرة موسفيني.. خطوة صائبة من جانبها رفضت الحكومة أي مساع للوساطة بينها وبين حاملي السلاح في دارفور يقوم بها الرئيس اليوغندي يوري موسفيني، واعتبرته غير مؤتمن على عملية السلام في السودان، وأكد ذلك وزير الدولة برئاسة الجمهورية، رئيس مكتب متابعة سلام دارفور د. أمين حسن عمر أن السودان يرفض ما أسماه ب «هراء» موسفيني. وأشار إلى أن الرئيس اليوغندي وسيط غير مؤتمن لأنه يتحدى الإرادة الدولية للسلام، ومشهود له بمواقفه العدائية المستمرة، وعلاقاته القديمة بالدوائر المعادية ليس للسودان فقط، بل للثقافة العربية.. بعيداً عن حسابات المحللين والمراقبين وفتاويهم في تفسير الموقف اليوغندي الأخير، إلا أن سياق العداء بين الطرفين السوداني واليوغندي خضع منذ بواكير تاريخه للتحليل والبحث في مبرراته، وتطوره للدرجة التي جعلت الخرطوم تعتبر كمبالا أحد أضلاع مثلث الشر تجاهها مع أمريكا وإسرائيل. موسفيني.. أداة امتهان العداء عموماً فإن الفهم الصحيح لحالة العداء التي يمتهنها موسيفيني ضد الخرطوم ينبغي أن تتم من زاوية علاقة الرجل بإسرائيل وأمريكا، لأن موسفيني طيلة فترة حكمه ظل أداة في يد تلك الدول لتنفيذ أجندتها في منطقة القرن الإفريقي، لذا يتوجب على السودان حل مشكلاته مع دولة الجنوب ليتلاشى الدور اليوغندي السالب بحكم أن هذه القضايا هي الذريعة التي ينفذ عبرها تنفيذ الأجندة تقودها إليه الدول أمريكا وإسرائيل.