إن هذه المدينة مدينة عريقة، ولعل الشاهد في ذلك التاريخ، إذ إن الحفريات والآثار أثبتت أن حضارة مروي والحضارات القديمة قد وصلت إلى مدينة المناقل الحالية، بمعنى أن المناقل هي موطن الإنسان المبكر. وظلت هذه المدينة عبارة عن قرية صغيرة أو قرى صغيرة متناثرة على مر التاريخ. الشاهد في الموضوع أن سر التسمية يعود إلى أيام دولة الفونج حيث كان يأتي إليها الخيالة من قبائل العجم وهم الذين عرفوا بالمناجل ومفردها (منجل) أي كتيبة عسكرية وذلك لرعي بالخيول في أسفل مدينة المناقل. وعندما جاء الغزو التركي المصري سمعوا بأن الفونج يقولون اذهب ناحية المناجل والتي مفردها (منجل) ولما كان المصريون ينطقون الجيم (قافاً) فأصبحوا يطلقون عليها اسم المناقل وهذا سر التسمية لهذه المدينة حتى لا يغور الناس في غير ذلك من لعبة المنقلة وغيرها لأنها هي نفسها جاءت من التسمية لأن أهلها يلعبون لعبة المنقلة التي سميت على أهل المنطقة. لا غرو أن الناس يتطلعون إلى معرفة المزيد عن تاريخ المنطقة، ومعلوم أن هذه المدينة قامت بأسنانها على يد الشيخ الورع الفكي البر الفكي ود البر وحول ما أطلق عليها اسم (منقلة عبد الباقي) وهو نجل الفكي البر نفسه العارف بالله وكان ذلك في أيام دولة الفونج أي السلطنة الزرقاء. وعندما جاء الإنجليز إلى السودان ووضعوها تحت التقسيم الإداري وجعلوا منها قسماً كاملاً عليه مأمور مصري وهو عثمان عارف الذي اختط بها مسجدها العتيق (1913م) الذي استمر تشييده لعدة سنوات وفتح بها مدرسة أولية (1906م) وبدأ في بناء القسم وبناء حراسة به وكان ذلك كله حول منطقة سكن أهل المناقل وهو موقع المحلية القديمة أي جوار خلاوي الفكي البر وسكن المواطنون الأصليون للمنطقة حيث كنا أطفالاً صغارًا في الستينات من القرن الماضي نلعب حول هذه المؤسسات والمصالح الحكومية وقتها ونرى الضباط والموظفين الذين يتميزون عن سائر أهل المدينة وقتها في زيهم من لبس الطربوش والبنطلون والأبرول وغيرها من لبس الفرنجة. إن مدينة المناقل ذلك التاريخ العريق والتي شهدتها وترعرعت فيها عرفت أهلها أنهم أهل الكرم والجود وبلد التقابة والدين ومحاطة بعقد فريد من الصالحين من أمثال الشيخ النيل رجل أم قرقور والشيخ عبد الباقي المكاشفي في الشكينيبة والفكي البر في المناقل ووالده الشيخ ود البر في أم طلحة والشيخ عز الدين ود نفيع والشيخ ود صبح الضويمر ود أبو نائب في الكريمت والشيخ الطاهر في نورا وود الخزام في عبود وغيرهم ممن لم أتمكن من ذكرهم. الشاهد الثاني في الموضوع أن هذه المدينة قد ازدهرت في مطلع الستينيات في العام الماضي نتيجة لقيام مشروع امتداد المناقل الذي أكسبها أهمية كبرى جعلتها من أهم مناطق الإنتاج في السودان ولقد شهدت المدينة حركة تجارية نشطة وتربع على التجارة فيها شخصيات هامة عُرفوا بالصدق والأمانة والحكمة وحل القضايا والإسهام في المشروعات التي تخدم المواطنين ولقد عرفت أن هؤلاء التجار الأربعة كانوا يدفعون ربط المحلية من العوائد دون أن يسأل الضابط المسؤول وهو على ما أذكر أحمد مصطفى الطاهر ذلك الضابط الإداري الذي كان متفاعلاً مع المجتمع وعمل على تطوير هذه المدينة. وتحضرني الذاكرة وأنا كنت صغيراً أرى مجالس الحل والعقد وفض النزاعات والخصوم في متجر جدي الحاج أحمد بابكر حبيب الله وهو أحد الأربعة الكبار وهم الحاج عبد الباقي عبد الله والحاج قسم الله عبد الله والحاج النعمة عشم الله وما ائتمر هؤلاء أو اجتمعوا وإلا قاموا بفضّ النزاع وحل المشكلة وإن كانت رقبة وقتل أو غيرها بحكمتهم وبمالهم. أناس خصهم الله بقضاء حوائج الناس وخلدوا ذكرى عطرة ولا يفوتنا هنا أن أذكر معهم حسب ما كان يقال الأربعة الكبار واثنين في كنبة الانتظار وهم جدنا الحاج إبراهيم الصادق حبيب الله وعبد الله محمد الجنيد (بوليس). وأنا أروي هذه الشذرات التي اخترتها من ذاكرتي ومن واقع المنطقة. أشتاق الآن وأحن إلى الماضي القديم حيث مصارف المياه الطبيعية والشوارع المنظمة والكناسين في الشوارع ومعهم ملاحظ الصحة وعربة الصحة التي تنقل النفايات واشتقت إلى مياه الدونكي العذبة بدلاً من الطين اللازب واشتقت إلى عيادة العم مأمون إبراهيم حيث العلاج المجاني والفوري واشتقت إلى مدرستي الأولية والوسطى التي كانت بلا رسوم تدفع ولا يحضر ولي الأمر إلا للقبول فقط واشتقت إلى أشياء كثيرة كانت في الماضي وكنت أذهب البوستة لفتح صندوق البوستة وأجد الخطابات التي تخص جدي الحاج أحمد بابكر حبيب الله من مختلف أنحاء السودان لأنه من التجار العموميين في السودان ووكيل لشركة موبيل أويل. وكان ذلك يوم الإثنين والخميس من كل أسبوع. بكيت عليك يا مدينة المناقل، مدينة العطاء والإنتاج، وعلى أناس عاشوا فيها أياماً كانت كلها بطولات ووهبوا أنفسهم لخدمة الناس ووقفوا أمام الحكام مطالبين بحقوق المواطنين وأسهموا مساهمة فعّالة في بناء هذه المدينة. أبكي عليها بكاء الطفل الرضيع حيث أرى برك المياه الآسنة ولا أسمع خرير المياه واشتقت إلى كثبان الرمال ولعب الحفير في الخريف حفير المأمور وحفير عبد الباقي وحفير أبوروف. ومن هنا أرسل تحية خاصة للأخ الضو عثمان حسن معتمد المناقل الأسبق الذي ابتدر شارع الأسفلت بالمناقل وعمل ما يسمى (بكرفته الضو) لأن شارع الأسفلت في شكل كرفته ولقد رأيته يقف بنفسه على قيام هذا الشارع مع العمال وعمل على بناء المحلية وقال لي بالحرف الواحد كلمة لن أنساها أنا ما أشيل حاجة معاي يا أبو القاسم دا كله عملته لأهل المناقل وشكراً له وله مني عاطر الثناء وهو يؤدي واجبه الآن داخل التنظيم الذي ينضم إليه. والحديث عن المناقل يطول ويطول وسوف نتابع إن شاء الله مرة أخرى ذلك حتى لا يمل القارئ.