· «الإرتجال» لفظ شائع ، بمعنى اصطناع الكلام (أو المواقف والأفعال) على غير منهج أو مثال ، وكيفما اتفق.. ولعل لمادة المصطلح – ونحن لم ننظُر في معجم – صلة بالرِّجل «العضو الذي تمشي عليه الناس والدواب، راجِلةً» ، ذلك أن «الراجل» هو من يمشي بغير ما دابَّةٍ أو مركبة ، فمثلُهُ المرتجل الذي يُنشيءُ القول أو الفعل بغير استنادٍ إلى فكرةٍ هاديةٍ أو منهج ، إلاّ ذوقه الخاص ، الذي قد يُصيب ، وكثيراً يُخطيء.. · ولكن وشائج مصطلح «الإرتجال» في السودان ، تبدو مختلفة بعض الشيء ، إذ وَقَرَ في النفوس أنّ للإرتجال صِلةٌ ب»الرجالة»(والرَّجالة لُغةٌ في «الرجولة» ، عند أهل السودان خاصّة).. ولهذا ، ينشأ الفتى مِنَّا مُولَعاً بالإرتجال ، فإذا بلغ من ذلك شيئاً ، دلَّ ذلك على بُلوغِهِ طور»الرجولة»!! · والإرتجال ارتبط قديماً بِفَنِّ الشِّعرِ خُصوصاً ،وفنون التعبير القولي عموماً ، حتَّى تحدَّثَت العرب ببعض الإعجاب عن رجال برعوا في ارتجال القول شعراً ونثراً [و كان المتنبّي و أبو تمّام والفرزدق و آخرون غيرهم قد تمكَّنوا ، بذكائهم المعهود ، من خداع القوم ، وإيهامهم بأنهم قد ارتجلوا بعض قصائدهم الرائعات التي ما يزالُ التَّغَنِّي بها قائماً ، مثل ميميَّة المتنبِّي التي تُحِسُّ وأنت تقرأ قِصَّتَها ، أنَّكَ بإزاءِ «فيلم» توفَّرَ لهُ أبرع كاتب «سيناريو» !! ولقد آمَنَت العربُ – بعد «فيلم» المتنبِّي الذي انتهى بمفاجأة : إن كانَ سرَّكُمو ما قالَ حاسِدُنا فما لِجُرحٍ – إذا أرضاكمو – ألَمُ وهو البيتُ الذي قامَ سيفُ الدَّولةِ بعدهُ ، يُقَبِّلُ رأس الشاعِر، بعد أن كان قذفهُ قبل قليل بالدواة فأدمى جبينه – أقول ، آمنت العرب بعد ذلك «الفيلم» بأنَّ الإرتجال فعلٌ إستثنائي ، وبطولي عظيم ، وأن العاقل هو من تعلّم الإرتجال وعلَّمَهُ !! · و منذُ ذلك الحين ، والسياسة العربيّة ، والإقتصاد العربي ، بل والثقافة العربيّة ، مسارح عظيمة للإرتجال !! ولن يحتاج ذو عقل إلى أكثر من النظر في أيّة مفردة من مفردات تاريخنا العربي القريب ، حتّى يكتشف أن البطل الذي لا منازع له في رسم الواقع العربي ، هو «الإرتجال» البطولي .. إرتجال الشعارات ، وارتجال الأهداف ، وارتجال الوسائل ، و – قبل ذلك كلِّه – إرتجال الخُطَب ، و خُطَب الزعماء خصوصاً !! · ولئن كان السودان متنازعاً عليه ما بين الإستعراب والإستفراق (من أفريقيا) في سائر عناصر هُويَّته ، فإنَّهُ – في ثقافة الإرتجال – أكثر عُروبة من جميع العرب .. · فنظرة واحدة إلى الشعارات الثوريّة التي ارتفعت في جميع عهود الحُكم الوطني ، تؤكدُ أن جميع تلك الشعارات الزاهية قد ظهرت إلى الوجود أوَّلَ ما ظهرت ، على ألسُنِ بعض الهاتفين ، في بعض المظاهرات ، فأُعجِبَ بها بعضُ القادة الذين كانوا في استقبال مظاهرة التأييد (أو مظاهرة التنديد بالعهد البائد) فأمر فوراً باعتماد تلك الهُتافات استراتيجية لحكومته !! · ولن نحتاج أبداً إلى تعداد مظاهر و مواضع الإرتجال في شأننا كله ، الرسمي والشعبي ، وأدنى مظاهر ذلك ما عهدناهُ كثيراً من فوضى الخطاب الرسمي ، الذي كثيراً ما أثمر تضارباً فاضحاً في التصريحات ،التي تُعبِّر – بالضرورة – عن مواقف ، تضارباً يثمرُ كثيراً من «البلاوي» التي لا تخفى على أحد !! · كُنَّا – في معادلات سابقة – قد أشرنا إلى إحدى «العادات الضارّة»في السودان ، ودعونا إلى مكافحتها رسميّاً وشعبيّاً ، وهي عادة «المهلة» الموروثة من عهد «الحبوبات» والحكم البلهاء التي تربط «درب السلامة « بحبل المهلة .. أمّا الآن ، فندعو – بصوت أعلى كثيراً – إلى إنشاء (جمعيّة مكافحة الإرتجال) ، وإن كنّا نُفضِّلُ ، قبل ذلك ، أن تترفَّق وزارة التربية والتعليم ، فتُفرِد إدارة بين إداراتها ، مختصّة بمكافحة الإرتجال .. و أنا واثق من أنها سوف تصبح واحدة من أخطر إدارات الوزارة .