الدكتور عبد العزيز المقالح شاعر وكاتب وناقد وأكاديمي يمني. كان رئيساً لجامعة صنعاء لفترة طويلة. في كتابه «الرؤيا والتشكيل» ناقش قضية الشعر ولكنه لم يتطرق إلى مناقشة مفهوم الشاعر نزار قباني الذي جاء في كتاب نزار «الشعر قنديل أخضر» لا بحسبانها معالجة عاطفية وشاعرية كما ذكر الدكتور المقالح لا تستحق الوقوف عندها ولكن في نظري كأخطر ما نادى به الشاعر نزار قباني من آرآء تجاوزت حد التطرف والاشتطاط وتخطت الثوابت الأصولية للعقيدة الإسلامية بطريقة تستفز القناعات التي رسخت منذ نزول القرآن... مبشرة بظهور توأم تاريخي للحيرة الجاهلية وهي تصف القرآن بأنة شعر. يقول نزار قباني في الصفحات 62 66 من كتابة «الشعر قنديل أخضر» التي لم يتوقف عندها الدكتور المقالح: ««حين أراد الله أن يتصل بالإنسان لجأ الى الشعر، الى النغم المسكوب، والحرف الجميل، والفاصلة الأنيقة. كان بوسعه أن يستعمل سلطته كرب فيقول للإنسان «كن مؤمناً بي.. فيكون» ولكنه لم يفعل اختار الطريق الأجمل.. اختار الأسلوب الأنبل اختار الشعر: ««واذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت من اهلها مكاناً شرقياً. ««فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا. ««قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا. ««قال انما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً ذكيا. ويستمر نزار قباني في كتابة آيات سورة مريم علي ذلك النحو الشعري حتي يصل الى الآية: ««والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا». فيواصل قائلاً: هذه واحدة من قصائد الله.. هل أدلكم على قصائد أخرى؟ إذن فافتحوا الاناجيل.. اقرأوا المزامير لتروا كيف تسيل حنجرة الله بالشعر.. لتروا كيف تشف الكلمة حتى تكاد أن تطير.. لتروا كيف يجلس الله على مسند حرف. والغريب في الأمر أن نزار قباني وبعد أربعة عشر قرناً من الزمان لم يرتفع بتصوره ذلك عن تصور عرب الجاهلية الذين وقفوا مشدوهين أمام كلام الله وتصنيفه فلم يسعفهم حسهم البدائي بأكثر من وصفه بأنه سحر وبأنه شعر. والوليد بن المغيرة في لحظة استسلام كامل وفطرة سليمة يقول عن القرآن للذين جاءوه مستنجدين: ««فماذا أقول فيه؟ فوالله مامنكم رجل أعلم مني بالشعر ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا. والله إن لقوله لحلاوة، وإن علية لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى عليه». وفي لحظة انكار واستسلام للمكابرة والباطل ينحدر الوليد بن المغيرة بفطرته فلا يجد إلا أن يقول: ««إن هذا الا سحر يؤثر. أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه؟». ثم وصف القرآن الكريم لحظات المكابرة تلك أبلغ وصف: ««إنه فكر وقدر. فقتل كيف قدر. ثم قتل كيف قدر. ثم نظر. ثم عبس وبسر. ثم ادبر واستكبر. فقال: ان هذا الا سحر يؤثر». وكأنما ما قاله الوليد بن المغيرة لم يُشف غليلهم فلم يجدوا وصفاً آخر يصفون به القرآن الا أن يقولوا: ««أساطير الأولين.. اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا». وهذا الوصف لم يكن اقرب الي الحقيقة من سابقه فقالوا: ««اضغاث احلام، بل افتراه، بل هو شاعر». ونزار قباني لم يرتفع مقدار ذراع عما سبقه اليه توفيق الحكيم في كتابه رحلة الربيع والخريف قبل ثمانين عاماً عندما ذكر على استحياء: ««إني لأذكر الآن من حيث «الشكل» كيف كان القرآن يثير فينا التأمل بأسلوبه الفريد لا هو بالشعر المنظوم ولا هو بالنثر المرسل لكنه طاقة شعرية وموسيقية معجزة». ثم ينقل توفيق الحكيم عدداً من السور على النحو التالي: اقرا باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرا وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وكذلك تأتي سورة المسد والانفطار وقريش والعاديات، فما حاول توفيق الحكيم أن يسقينا له بجرعة مخففه «طاقة شعرية» حاول نزار قباني أن يجعلنا نتجرعه دفعة واحدة.. بالقول الصريح «لنرى كيف يجلس الله على مسند حرف». وبالرغم من أن نزار قباني استعمل كلمة ««حرف» للدلالة على حروف الشعر فإن الله سبحانه وتعالى استخدم ذلك اللفظ كموقف للمتذبذبين والمنافقين: ««ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه. خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين». وقد كنت أظن أن الزعم بشاعرية القرآن قد حُسم أمره منذ أن نزل قوله تعالى: ««وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون». وعندما نفى عن رسوله صلى الله عليه وسلم صفة الشعر فقال: ««وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو الا ذكر وقرآن مبين». تلك هي الكلمات الفصل في هذا الموضوع لم تترك مجالاً لاجتهاد أو تزييف حتى إن الرسول الكريم كان عندما يستشهد ببيت من الشعر لطرفه بن العبد وهو البيت المشهور: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود كان يعمد الى كسر اوزانه ويردده على النحو التالي: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك «من لم تزود» بالأخبار امتثالاً لأمر الله ««وما علمناه الشعر وما ينبغي له».. والخطورة في نظرى أن يتبنى بعض الكتاب والشعراء هذه الآراء ويضللوا بها السذج فيظنوا القرآن شعراً وان مايكتبونه شعر ويتساوى كلام الله مع اقوال البشر. فتوفيق الحكيم وبعد أن ابدى اعجابه بالقرآن من حيث «الشكل» كما يقول ووصفه بأنه طاقة شعرية وموسيقية معجزة وكتب آيات سور القرآن على النحو الذي ذكرناه قال: ««هذا الإعجاب ترك في نفوسنا أشياء وربما بدون أن نشعر كانت تعيش دائمًا فى اعماقنا ذكريات هذا «الشكل » الفني الفريد». ويورد بعض الأفكار التي كتبها تاركاً للقارئ إجراء المقارنة بينها وبين آيات القرآن التي رتبها بطريقة شعرية فيقول في إحدى قصائده: هواجس ليلة بيضاء: تنفس صبح من أنوف خيول تركض لاهثةً في وهاد نفسي اسمع في اعماق الصهيل أمنعها من اللحاق بأمى انها فى غيوم تمرق تتساقط من سناكبها شهب تبرق وتغرق فى عيون سود غريبة النظرات لنساء عاريات يسعلن ويضحكن فى سوق النهود «رحلة الربيع والخريف 25 26» هذا ما هو إلا هذيان يشبه: يا ضفدعة بنت ضفدعه... لمسيلمة الكذاب الذي تجاوزه الفكر الإسلامي منذ أربعة عشر قرناً ولا يزال التحدي قائماً: ««فأتوا بسورة من مثله...» والشعر في نظرى مهما تسامى أو بلغ من الصياغة الفنية والشعورية ما بلغ فهو فى النهاية نشاط عقلاني بشرى محدود بزمانه وبيئته ومفرداته اللغوية وتركيباته الذهنية ولو جمعنا كل أشعار العالم لما ارتفعت الى آية واحدة بكلمة واحدة فى القرآن مثل ««مدهامتان» مثلاً... ونعجب بالشعر ونتذوقه ولكن فى حدود إعجابنا بالنشاط البشرى وابداعاته المحدودة، ونزار قباني في كتابه ««قصتي مع الشعر» يكتسب عنده قول دورنمات أهمية خاصة «أن الشعر هو اغتصاب العالم بالكلمات» ولذلك فهو يقول «بدون اغتصاب لا يوجد شعر». وإذا كان حسب تعبير نزار قباني أن الله لم يستعمل سلطته الربانية ولكنه استعمل سلطته الشعرية في إنزال رسالته للعالم فممَّن يغتصب الله العالم؟ هل يغتصبه من مخلوقاته أم من سلطة أعلى منه؟ تلك هي خطورة الزعم الذى نادى به نزار قبانى في كتابه «الشعر قنديل أخضر» التى يعدها الدكتور عبد العزيز المقالح معالجة عاطفية وشاعرية واعتبرها انا أمراً خطيراً يستوجب الرد عليه بحسم لأنه يتعلق بصميم العقيدة وتزييفها. فالله سبحانه وتعالى لم يغير الدنيا بالشعر لأن الشعر لا يغير العالم. اكتب مليون قصيدة عن مضار الخمر بل اجمع كل كل القصائد التى قيلت فى مضار الخمر وحاول ان تقنع بها شخصاً واحداً. ولكن عندما جاء امر الله ««انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه...» تبدل حال امم كثيرة ما بين عشية وضحاها، ارتفعت من قاع الموبقات الى الطهارة الربانية التى ارادها لها الله. ولم يتم ذلك بالشعر فالشعر ليست لديه القدرة علي تفتيت جزيئيات العالم واعادة صياغتها على النحو الذي يحققه كلام الله «وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون». ودعوة نزار لنا لنفتح الأناجيل ونقرأ المزامير لنرى «كيف تسيل حنجرة الله بالشعر» فهذا تصوير مناف للذوق ولا يحسن التأدب مع الله ولا يضيف جديداً لمزاعم الجاهلية غير أنه يسقط بصاحبه وكم من الكلمات ينطق بها المرء فتهوي به فى النار سبعين خريفاً. وقد اعتاد نزار قباني مساواة الله بالبشر فلا مدعاة للعجب أن صوره يكتب الشعر وتسيل حنجرته بالشعر تنزه الله وتعالى عن ذلك علواً كبيرًا . ففي إحدى قصائده يقول نزار: أحببتني شاعراً طارت قصائده فحاولى مرة أن تفهمى الرجُلا وحاولى مرة أن تفهمى مللي قد يعرف الله فى فردوسه المللا فطالما أن الله فى فردوسه قد يعرف الملل فبدافع الملل قد يلجأ الى قرض الشعر كما زعم نزار قبانى تعالى الله عما يصفون ونستغفره سبحانه عن نقل ذلك فما قصدت الا توضيح ذلك الغلو والتطرف الذى جاء فى أقوال الشاعر نزار قبانى. والتطرف ليس وقفاً على مختطفي الطائرات وزارعى الألغام والقنابل والسيارات المفخخة... ولكن التطرف يمكن أن يصدر عن الانحياز لشكل من الأشكال التعبيرية بمثل ما نادى به نزار قباني ولم يلفت نظر ناقد قامة كالأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح. آخر الكلام لعبد العزيز المقالح أبيات تتصدر موقعه الاليكتروني تقول: سنظل نحفر في الجدار إما فتحنا ثغرة للنور أو متنا على وجه الجدار. وبرغم روعتها فهي لا تعدو أن تكون نشاطاً بشرياً لا يشبهه كلام الله العظيم كما يقول نزار قباني. غفر الله لي ولكم وجمعتكم مباركة.