«عليك تقبيل اليد التي لا تستطيع أن تعضها»... لم أجد أجمل من تلخيص صديقي الدكتور أحمد المصطفى الخبير بالعلوم السياسية والمختص بالعلاقات السودانية الأمريكية في توصيف ما يجب أن تكون عليه العلاقات السودانية الأمريكية، بعيدًا عن الشحن العاطفي أو التعصب والتشنج والذي لا يحقق في السياسة إلا صفرًا، ففي الكثير من الأحيان تجد الدول التي تراعي مصالح شعوبها أنها مكرهة على تقديم التنازلات لمن لا تحب، وما جعلني أذكر ما ذهبت إليه هو التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية وأحد صقور الإنقاذ علي كرتي والذي دعا أمريكا للكفّ عن التدخل في الشأن الداخلي السوداني، وكان تعليقه في سياق تقييمه لتعيين مبعوث أمريكي جديد خاص بالسودان، وأكد أن التعيين لن يضيف جديدًا، وأوضح أن الخرطوم لن تعول كثيرًا على الخطوة، ويشير إلى أنه قد حمَّل القائم بالأعمال الأمريكي بالخرطوم رسالة واضحة بأن تكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد. ولعل حديث كرتي يبين بجلاء وجود نوع من التوتر في العلاقات بين البلدين مرده رفض واشنطن لزيارة مساعد رئيس الجمهورية د نافع علي نافع لأراضيها على الرغم من الدعوة المسبقة لذلك، بفعل تحرُّكات داخلية قادتها عددٌ من منظمات المجتمع المدني نجحت من خلالها في إجهاض الزيارة، ولعل التوتر في العلاقات ليس بالجديد باعتبار أنَّ اغلب الأوقات في العلاقات بين البلدين اتسمت بالتوتر، على الرغم من سعي الحكومة المتواصل للتطبيع مع أمريكا بشتى السبل المعلن منها والمستتر، وربما وجدت الحكومة مع مرور الزمن أن سياسة «يا أمريكا لمي جدادك» و«وامريكا روسيا قد دنا عذابها» لا تجدي كثيرًا في السياسة الخارجية وفي ظل عالم تحكمه المصالح فقط، فأمريكا كحكومة عليا للعالم تتحرك لضمان ريادتها وقيادتها للعالم ولتأمين اقتصادها وصناعتها، والمعروف أن لهذه الدول العظمى ثوابت محددة تتمثل في حماية المصالح الإستراتيجية بمختلف الوسائل، بينما تتغير متغيراتها في التعاطي مع مختلف الدول عبر أسلوب تعاطي محدد في العلاقة عبر تصنيف دول موالية وممانعة، والمؤكد أن المتحكم في ترموميتر هذه العلاقة هو تغير مناخ التوافق والمحافظة على تأمين المصالح الإستراتيجية لهذه الدول، وإذا أردنا التحدث عن مسار العلاقة مع أمريكا فعلينا الاعتراف بأن أمريكا دولة مؤثرة وبإمكانها في كثير من الأحيان فرض سياستها على أي دولة تشاء، وإذا أراد السودان ان يتعامل مع أمريكا فعليه اللجوء لمعادلة للتعامل وللتعاون دون التفريط في الثوابت نجحت فيها الكثير من الدول. ويوصي الكثير من الخبراء والمختصين في العلاقات الأمريكية السودانية خلال العديد من المناشط التي أُقيمت لدراسة أمر العلاقات بين البلدين بضرورة التطبيع مع إسرائيل، ورهنوا زوال التوتر بهذه الخطوة التي تكاد تبدو مستحيلة تمامًا حاليًا، وفضل المختصون المصالح السودانية على اي شيء آخر باعتبار أن السودان تضرر كثيرًا من المقاطعة الاقتصادية للبلاد. لماذا تسعى الحكومة للتطبيع مع واشنطن ولا تسعى للتطبيع مع إسرائيل؟ هكذا تساءل مختص تحدث ل«الإنتباهة» مفضلاً حجب اسمه. وإذا حاولنا أن نتحدث عن مسار العلاقات بين البلدين منذ مقدم الإنقاذ للحكم نجدها قد توترت في بداية التسعينيات من القرن الماضي عندما شرعت الحكومة حينها في إيواء جماعات إسلامية تعتبرها أمريكا إرهابية كحماس، والجهاد الإسلامي» وحزب الله والقاعدة، فضلاً عن موقف السودان المغاير للموقف الأمريكي في حرب الخليج لمعالجة التدخل العراقي في الكويت كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وبدأ شكل التوتر العنيف عندما أدرجت واشنطن اسم السودان في قائمة الدول المساندة للإرهاب في «12» أغسطس «1993»، وعندما اتهمت مصر الحكومة بالسعي لاغتيال رئيسها حينها محمد حسني مبارك بأديس أبابا «1995». تزايدت وتيرة الضغوط الأمريكية على البلاد وبرزت خلال عهد كلينتون في «1997» عندما فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية شاملة على البلاد استمرت حتى الآن ولم يتم استثناء شيء منها إلا الصمغ العربي، كما تم تخفيض تلك العقوبات قليلاً عقب الانفصال في عهد أوباما. وعلى الرغم من سعي الولاياتالمتحدة إلى إرسال رسالة للخرطوم مؤخرًا بأنها لا تسعى لإطاحة النظام على الرغم من دعمها الدائم للحركات المتمردة على الحكومة عبر القائم بأعمال سفارتها الأخير بالخرطوم جوزيف إستافورد والذي ظل يؤكد في الكثير من لقاءاته مع المسؤولين بالخرطوم احترام بلاده لسيادة السودان وأن بلاده لن تدعم أي تدخل عسكري لإسقاط نظام الحكم، ويظل جوزيف كمسؤوليه يرسل رسائل الترغيب والتطميع للحكومة بسعي حكومته الدائم للتطبيع ولتحسين العلاقات بين البلدين ويقوم من خلال رسائله هذه بإدخال حزمة شروط جديدة يطالب بها الحكومة، والمؤكد أن الشروط الأمريكية باختلاف الرئيس الحاكم في واشنطن لا تتغير بل هي في ازدياد دائم في ظل خضوع من الخرطوم في السر، تعقبه هجمات وتصريحات كلامية على الدوام لم تقل على الإطلاق، وربما هذا ما يجعل صديقي دكتور أحمد المصطفى يسميه بالتكتيك الدائم للتنازل من قبل الحكومة، فكل تصريحات الحكومة الرسمية ضد أمريكا عبارة عن اتهامات وحتى الهيئة التشريعية القومية لم تخرج عن الصف المتهم، فالكل يذكر تصريحات رئيس الهيئة أحمد إبراهيم الطاهر عندما تسببت أمريكا في تعطل افتتاح مصنع سكر النيل الأبيض بسبب رفضها تزويد الحكومة بتكنلوجيا تشغيل المصنع، حيث اتهم أمريكا بشن حرب خفيَّة على البلاد، وبأنها تقف عائقًا منيعًا أمام تقدم البلاد، وبطبيعة الحال لا بد من أن يعرج للقضايا العاطفية التي يشحن بها المخيلة الخاصة بالشعب بأن الحكومة عصية على التطويع، فيقول إن الشعب السوداني يستطيع العيش دون مأكل أو مشرب إذا كان ذلك على حساب عزته، وأكد أن البلاد تستطيع الاستغناء عن كثير مما يأتي من أمريكا، ويذهب نائبه هجو قسم السيد في وقت سابق في ذات الاتجاه العاطفي للتعاطي مع السياسة عندما اتهم أمريكا بالسعي لإدخال جواسيسها للبلاد عبر المنظمات الإنسانية، وبأنها تسعى لإطاحة الحكومة من خلال ادعاءات سابقة بوجود انتهاكات لحقوق الإنسان بالبلاد في جنوب كردفان، وعندما زار عضو للكونغرس جنوب كردفان دون علم الحكومة انتقد هجو حينها الحكومة وقال: «كان يقبضوه ويخلوا أمريكا تعتذر بدلاً من الشكوى»، ويشير الى أن السودان يسعى لتفادي عداوة أمريكا لكن الأخيرة تتعمد معاداة البلاد، وقال حينها إنه سيلتقي القائم بالأعمال الأمريكي ليطلب منه أن تقوم بلاده بحوار مباشر لتحديد طبيعة العلاقات بين البلدين. حسنًا... الشد والجذب في العلاقة غير المتكافئ بين البلدين يحتم على أي طرف أن يعي حجمه جيدًا والمجال المتاح له للمناورة والكروت التي يمتلكها للضغط على الطرف الآخر ومتى يتقدم بتنازلات ومتى يرفض بعيدًا عن الحماسة السياسية والشحن العاطفي، وإذا تحدثنا بعيدًا عن العاطفة فسنجد أن الفارق في ميزان القوة سحيق جدًا بين البلدين في مجالات القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية والإستراتيجية، وبالتالي تنعدم مجالات المناورة والمراوغة، بينما تمتلك واشنطن الكثير من العناصر التي تمكنها من المناورة والضغط وطول النفس، ولا بد من فهم نقطة غاية في الأهمية لا يعيها ساستنا في الأجهزة التنفيذية والتشريعية وهي ضرورة وقف الخلط بين الإدارة الأمريكية والكونغرس الأمريكي، فهناك فرق كبير بين الاثنين هناك، فلا يمكن أن تسير واحدة منهما وفق مشيئة طرف آخر كما هو الحال في دول العالم الثالث. وفهم اللعبة السياسة العالمية يحتم على السودان في الكثير من الأحيان الخضوع حتى تمر العاصفة أو أن يكون من الذكاء بمكانة بحيث يستطيع أن يلعب على التناقضات الداخلية الأمريكية حتى يستطيع أن يخترق بعيدًا عن العاطفة التي لا تجدي كثيرًا في السياسة. وتبقى الكثير من الأسئلة التي تحتاج الحكومة أن تجلس وتجاوب عليها بكل شفافية عمّا إذا كان لها إستراتيجية واضحة ومحددة للتعامل مع الطرف الآخر كما يفعل هو أم أننا ما زلنا في مرحلة ردود الأفعال وتقديم التنازلات دون مقابل كما حدث عند التعاون في «الحرب على الإرهاب» أو عندما تم التوقيع على اتفاق السلام الشامل أو عندما وافقت الحكومة على الاعترف بانفصال الجنوب؟