وقد سبق أن نظَّم مركز الدراسات الحضارية في القاهرة عام 1992م ندوةً عن التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، قُدِّمت فيها ورقتان إحداهما عن «التعددية السياسية من منظور إسلامي»، يمكن تلخيص أهم ما فيها في النقاط الآتية: 1/ إنَّ القرآن الكريم والسُّنة لم يحددا نظاماً معيَّناً للحكم ولكنهما وضحّا القيم التي يعتمد عليها الحكم مثل: الشورى، المساواة، العدالة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مسؤولية الحاكم أمام الأُمة وغير ذلك. 2/ التعددية السياسية ضرورة حتمية لحماية تلك القيم وضمان ممارستها، وكفالة حقوق المواطنين، وأنّ آيات القرآن الكريم جعلت من التعددية أي الاختلاف بين الناس من آيات الله في الكون وحقائق الإبداع الإلهي. 3/ إنَّ رفض التعددية يقود إلى الاستبداد والطغيان، وغياب المراقبة، وإنّ المسلمين اليوم في حاجة لتجاوز كتابات القدماء وشعاراتهم في الحكم بترجمتها إلى برامج محددة تنعكس على حياة الأُمة وحقوقها السياسية. 4/ وجود الأحزاب السياسية في ظل ثوابت الأُمة ضرورة لتتجنَّب الأُمة الاستبداد والطغيان باسم الدين أو بأيِّ مُسمّى آخر، ولتقويم التجربة وضمان الحريات، وكفالة الحقوق، والمشاركة الحقيقية لا الصورية المسرحية. 5/ ربط الفقه السياسي في تنظيم الدولة وإدارتها بما يحقِّق مصالح الأُمة ويدرأ عنها الفساد. أمّا الورقة الثانية فقد قدَّمها الأستاذ صلاح الصاوي عن «التعددية السياسية في الإسلام» تحدَّث فيها الباحث عن مبدأ التعددية في إطار التزام الأحزاب بسيادة الشريعة الإسلامية، بل حق الأحزاب الإسلامية في التعاون مع الأحزاب الأُخرى غير الإسلامية في سبيل تحقيق مصلحة قومية، أو منفعة مشتركة، كإقرار نظام حكم ديمقراطي يتيح الفرصة للجميع على قدم المساواة وبحرية تامة لتحسم بعد ذلك الأُمة خيارها عن طريق صناديق الاقتراع، كما يمكن عقد تحالفات مع هذه الأحزاب إذا ما تعرَّض الوطن لغزوٍ خارجي، أو دفع مفسدة عامة مشتركة، أو الدفاع عن الحقوق الأساسية للأمة، ونلاحظ أنّ الجبهة القومية الإسلامية في السودان قد مارست كل هذه التجارب مع الأحزاب كلها دينية وعلمانية قبل فترة الإنقاذ. وقد تمخَّض النقاش في تلك الندوة على أن إقرار التعددية لا يعني بالضرورة التناقض والفرقة، بل قد تكون تعددية تنوع وتخصص، وإنّ التعددية لها ما يؤيدها من النصوص في الكتاب والسُّنة باعتبارها نتيجة طبيعية لحق الاختلاف وفطرة الإنسان في ذلك، كما اتفق الباحثون على أنّه لا يمكن قيام نظام سياسي إسلامي حديث وهو يُنكر حق البشر في اختلاف وجهات النظر، وتمايز الآراء وحقهم في إقامة كيانات وأحزاب تتبنَّى ما يرونه حقاً ومصلحة للدين والدنيا. وقد خرجت الندوة بتحقيق النقاط الآتية وأهميتها: 1/ التعددية حقيقة في النظام السياسي الإسلامي، كما أنّها فكرة حضارية لا تقف عند التعددية السياسية بل لابد أن تُحترم في كل المستويات الأخرى الحضارية والتربوية، بما يؤكد قبول الآخر وجوداً وفكرةً. 2/ إنَّ حدود التعددية تكمن في القيم الأساسية، والمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية أو ما يسمّى بقواعد النظام العام. 3/ إنَّ الحركة الإسلامية تقبل مبدأ تداول السلطة. 4/ إنَّ قضية التعددية يجب أن ترتبط بحقيقة القيم الأساسية ولا ينبغي للحركة الإسلامية أن تنزلق كما نشاهد اليوم في ازدواجية القيم بدعوى التمييز بين مرحلة الدعوة ومرحة التمكين، بما يشكِّل في أصول واحدة القيم الأساسية الإسلامية إنَّ التعددية المحققة للتداول على السلطة تحقق دوام السلطة وفعاليتها واستمراريتها، بمقدار ما تعبِّر الجماعات السياسية عن هُوية المحكومين ومصالحهم، وأنَّ ضرورة التمييز بين الوسائل والمقاصد يجب أن لا يوقعنا في التوجُّس من استخدام المفاهيم الأجنبية كما يقول الشيخ «راشد الغنوشي» في كتابه «الحُريات العامة في الدولة الإسلامية». ولا شك أنَّ هذه الأفكار تمثِّل خطوات جريئة وقوية في تطور الفكر السياسي الإسلامي في طريق التعددية الكاملة دون وصاية، وهي بذلك تجاوزت أكثر الأطروحات في الساحة السياسية الإسلامية، لأنَّها قدَّمت رؤية واقعية علمية عملية، وأضافت إضافات مقدّرة مهمة في هذا المجال.