بدايةً لابُدَّ من احترام العقل الإنساني ونحن نخاطبه أو نستمع إليه وهذا يقتضي احترام حق الآخر في أن يقول كلمته وأن نستمع إليه ، كما أعطينا أنفسنا الحق في مخاطبته ، بل أحياناً في توجيهه والإملاء عليه ، كما أنَّ علينا عدم خلط الأمور ، وإطلاق الأحكام في أمور يتسع فيها الأخذ والرد ، والقبول والرفض وفق المعايير الإنسانية في معالجة القضايا وطرح الأفكار ، وتبعاً لذلك علينا عدم ربط قضية التعددية أو التنوعية في الفكر السياسي الإسلامي بقضية الأحزاب السياسية لأنَّنا نُعالج قضية مطروحة منذ زمن في حلبة الفكر السياسي الإسلامي باعتبارها قضية المسلمين وهم يتهيأون في البلاد المختلفة لطرح رؤيتهم السياسية في نظام الحكم ، إذ هيأت لهم الظروف أن ينتقلوا من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة ، ولمّا كان الإسلاميون في السودان على سُدَّة الحُكم ولما يتضح منهجهم السياسي في الحكم كان هذا الجدل الذي ملأ الساحة ، وخاض فيه الناس باختلاف منطلقاتهم ومقاصدهم ، وأهدافهم دون النظر إلى أهمية تجرُّد الداعين للتعددية والرافضين لها من المنطلقات الشخصية التي تطمس معالم الحقيقة هنا وهناك . لا يختلف المسلمون في أنَّ الإسلام قرَّر مبادئ عامة لنظام الحكم تتمثَّل في مبادئ الشورى والمساواة ، والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعصمة الأُمة ، ومسؤولية أهل الحلِّ و العقد ، وغير ذلك ثم ترك للمسلمين أن يحددوا الأشكال التنظيمية التي تتناسب مع ظروف زمانهم ، ومستجدات عصرهم ، غير أنّ الفكر الإسلامي اهتم بالتركيز على تكريس الصورة المثالية للحاكم المسلم والنظام الإسلامي دون أن يطور طبيعة المؤسسات التي تحقق دور الأُمة في مراقبة الحاكم وتحديد سلطات الرقابة ، وعمليات التغيير حين تختل المواصفات والمعايير التي يُختار الحاكم على أساسها ، وعندما نقول الفكر الإسلامي لا نعني الإسلام أو الدين الذي هو الوحي المنزل على رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وإنَّما نعني اجتهاد الأُمة وفكر علمائها في تنزيل مبادئ الإسلام على الواقع وترجمته بما يستجيب لمتغيرات العصر ، ومستجدات الحياة في مناحي الحياة المختلفة ومنها الجانب السياسي ، والفكر الإسلامي بهذا المفهوم ولأنّه اجتهاد بشري قابل للصواب والخطأ ، والأخذ والردِّ ، والقبول والرفض . إنَّ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وقد اقتفى نهج رسول الله وضع أساساً للاجتهاد في تنظيم الدولة ودستورها ، ونظامها الإداري ، غير أنَّ الذين جاءوا بعده لم يواصلوا المشوار حيث وُوجهوا بمشكلات ضخمة لم تكن في حسبانهم ، وكان الإمام علي – رضي الله عنه – بقدراته وبُعد نظره قادراً على أن ينتقل بالدولة الإسلامية إلى مرحلة تؤصَّل فيها صور تنظيمية جديدة لدولة اتسعت رقعتها ، وضمَّت شعوباً وحضارات وثقافات وأنظمة ، وأصبحت دولة عالمية نتيجة لانتشار دعوتها حيث قدَّم المسلمون منهجية جديدة في العدل والمساواة والحرية وغيرها من القيم التي كانت المجتمعات في حاجة إليها ، غير أنّ ذلك لم يتحقق نتيجة لسيطرة الأحداث التي نعرفها جميعاً .. الدولة الإسلامية تطورت تطوراً اجتماعياً هائلاً نقلته إلى العالمية ، ولكنها لم تتطور سياسياً وتنظيمياً ودستورياً ، الأمر الذي جعل الفكر السياسي الإسلامي في عصرنا يبحث عن صيغة مقبولة متناسبة مع منظومة القيم الإسلامية في مجال السياسة الشرعية ، والنظم الدستورية ، وقضية تحقيق مراقبة الأُمة على الحُكّام ، وهذا جعل كثيراً من المفكرين يرون أنّ التعددية في إطار ثوابت الدين وقيم الإسلام ومسؤوليات الأُمة هي الضمانة الحقيقية والمناسبة لعصرنا ضد الاستبداد ، وطغيان حاكم أو جماعة بالسلطة ، وأنّ التعددية من خلال المعايير الإسلامية تحقق مبادئ الحرية والمساواة والعدل ، وهذا ما سنوضحه عندما نعرض لآراء عدد من العلماء العالمين في المسألة . إنّ توقُّف علماء الأُمة عن دفع حركة الجهاد في نظام الدولة ودور الأُمة في المراقبة والمحاسبة ، هو الذي أدى لظهور الاستبداد وتحكُّمه وتخلُّف الفكر السياسي والدستوري ، وفقدان المسلمين - حتى عصرنا - لصورة واضحة لشرعية الحكم وتداول السلطة ، ووسائل الرقابة ، وهذا هو الذي جعل زعماء الإصلاح المسلمين في العصر الحديث - في ظل سيطرة الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي - لمحاولة تقديم رؤية إسلامية لنظام الحكم تؤصل مبادئ الحرية والعدالة ، والمساواة والشورى ، والثورة على الظلم وحق الأُمة كمصدر للسلطات . Dr Abbas Mahjoob [[email protected]]