لو حسد أحدٌ مسؤولاً بعينه على صراحته لكان وزير الخارجية الأسبق الشريف زين العابدين الهندي هو الهدف.. والرجل في صراحة متناهية وأمام أعضاء الجمعية التأسيسية ينعى الديمقراطية بقوله «ديمقراطيتكم دي لو خطفا كلب .. مابنقول ليه جر» وقد يظن البعض أن الصراحة قُبرت مع الهندي إلا أن مسؤولين كثرًا مضوا في طريقه، وربما تفوقوا عليه رغم اختلاف الزمان ومقتضيات الحال. ولعل تصريحات أو تعليقات المسؤولين على قضايا أو مواقف بعينها بمثابة رسائل عسيرة الاستيعاب ولا يمكن هضمها إلا إذا تناولوا في تلك اللحظة حبوب الصراحة والتي يحس معها آخرون بحموضتها أو كأنها نصل غُرس في خاصرتهم، وقد يكون ذلك حال الرئيس الأوغندي موسفيني عقب تحدث النائب الأول للرئيس علي عثمان مؤخرًا وبصراحة عن مؤامرات الرجل ومساعيه لتغيير النظام في الخرطوم وهي صراحة تجعل المتأمل لها يضع يده في قلبه لجهة وجود موسفيني على سدة الحكم الآن إذا ما قورن بالقذافي الذي حبس المسؤولون صراحتهم في صدورهم حتى تصدع نظامه. كذلك ممن عُهد فيهم الصراحة وزير المالية علي محمود الذي دعا لحكومة رشيقة، وقال: كفاية جيش المسؤولين الذي يتجمع ليصلي الظهر في مسجد القصر وهي إشارة صريحة إلى محاولات بعض المسؤولين التقرب للرئيس أو هكذا نعتقد، وكذلك ظل علي يتحدث وبصراحة عن الضائقة المالية خاصة عندما كشف عن احتمالية حاجة البلاد لمليار ونصف المليار دولار سنوياً. لكن في بعض الأحيان تنزل صراحة المسؤول بردًا وسلامًا على المجتمع أو على من حوله وعلى نفسه، ويجسِّد تلك الحالة والي جنوب دارفور د. عبد الحميد كاشا وهو يضرب الرقم القياسي في إطلاق تصريحات من فوهة مدفع الصراحة، إذ هو الوالي الوحيد الذي أعلن صراحة جاهزيته للتقدم باستقالته في وقت يكنكش فيه آخرون في الكراسي وهو يكشف عن عجز في ميزانية ولايته بمعدل خمسة ملايين شهرياً، بل وصل مرة قمة الصراحة بقوله: «أنا وجدت نفسي ضحية لأخطاء المركز ومزاج وظلم المركز» عندما وجد ولايته الخامسة في تلقي دعم المركز، ويُفترض أن تكون في المرتبة الثانية.. سألت كاشا أمس الأول عن سر صراحته تلك وابتدر حديثه معي بمثلين شعبيين الأول يقول «الجعان فورة البرمة ليهو قاسية» والثاني «الفقر بطلعك من بت عمك» وشرحهما من خلال حديثه بقوله إن «الفلس حرق قلبنا وخلانا نكورك ونكون صريحين بشأن واقع الولاية»، وزاد «بصراحة لما نكون صريحين المركز بمسح دمعتنا»، وشدَّد على تقديرهم للظروف التي تمر بها البلاد وكثرة هموم وقضايا المركز وأشار إلى أن قيادة الإنقاذ هي الأكثر صراحة ما جعلها قريبة من المواطن لجهة أن الصراحة سمة أهل السودان وأن صراحته حسب رؤية «الإنتباهة» لها كما قال تجعله مرتاح البال، ونفى أن تكون صراحته زادت بعد أن أصبح واليًا بعكس الحال عندما كان وزيرًا وقال: «ياهو حالي ما اتغير ولا بتغير» وقد يكون ذلك أيضًا حال وزير المالية علي محمود وآخر حالة الصراحة له استهجانه استيراد الزهور، وطالب بضرورة إيقاف استيرادها، وكان لحظتها يشير بيده إلى زهور كانت على منضدة رئيس المجلس الوطني، ولك أن تتخيل لحظتها مادار في ذهن أحمد إبراهيم الطاهر!!. ولكن أحيانًا كثيرة تسعد صراحة المسؤولين الناس رغم أنها تُدخل جهات أخرى في حرج بالغ مثل صراحة الوزير الأسبق بالاتصالات الطيب مصطفى الذي استقال من منصبه وذكر بصريح العبارة أن السبب هو خلاف بينه وبين الوزير سبدرات حول رخصة الهاتف السيار، عندما منح مصطفى شركة موبيتل المشغل الأول للهاتف السيار امتياز التشغيل وهو القرار الذي ألغاه سبدرات، وكانت حجة الطيب ضرورة توازن قطاع الاتصالات وعدم احتكارية جهة واحدة لخدمات الهاتف الثابت والسيار في البلاد، وقد صدقت رؤيته لاحقًا.. وامتدت صرحة الطيب في قضية محورية وإستراتيجية هي انفصال الجنوب اضطر معها للخروج من المؤتمر الوطني وكان إخوان له صريحين في ذات الأمر لكنهم تراجعوا لاحقًا بينما كان مسؤولون آخرون يتمتعون بصراحة منقوصة حسبما يُفهم من حديث الطيب والذي قال لي مرة في حوار أجريته معه «هناك قيادات تؤمن بفكرتنا » ويعني الدعوة للانفصال وكذلك أوقف بعض المسؤولون قطار الصراحة في منتصف الطريق وتأسوا بالمثل القائل «اللبيب بالإشارة يفهم»، وكان ذلك حال الوزير الأسبق د. علي الحاج وهو يرمي بمقولته الشهيرة «خلوها مستورة»، بينما يعيب البعض على رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي عدم صراحته خاصة حيال المشاركة في الحكم سواء في عهد الإنقاذ أو حقبة مايو بينما عهد في الوزير الأسبق د.الترابي عدم الصراحة واللجوء إلى أسلوب التشبيه والاستعارة، لكن الصراحة التي تشيع في المكان حالة من الرهبة هي التي يتحلى بها مساعد رئيس الجمهورية د. نافع علي ويروى أنه كان مخاطبًا لحشد بدار حزبه أمه أحد الولاة الذي أسبغ أحد أنصاره صفة البروفيسور على الدكتورين نافع والوزير أزهري التجاني بينما سبق اسم الوالي بكلمة دكتور وهو ليس كذلك الأمر الذي أحرج الأخير واضطرة إلى القول وبضحك يا فلان أنا ما دكتور وأصر المتحدث على موقفه فما كان من نافع إلا أن قال بصراحة مليئة بالحسم «اقعد وبطل كذب ونفاق» كما تمتد صراحة البروفيسور أقصد د. نافع إلى رأيه في الأحزاب وهو يصفها بأقذع الصفات على شاكلة أحزاب العشر.. ومهما يكن من أمر فإن الصراحة مطلوبة في كل الأحوال لكن قد تتفاوت درجاتها.