قلت في المقال الماضي إني استندت إلى كلام النبهاني عن حرمان المتنبي وأبي تمام من شرف مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستبعدت لذلك أن تكون القصيدة المزعومة من نظم نزار قباني. ولكني مع ذلك أقدمت على قراءتها وتدبرها، ولما تلوتها حق تلاوتها اتهمت ظني وراجعت نفسي، قائلاً: هذه أنفاس نزار وهذه ألفاظه، ففيم تنكر مدحه لرسول الله، صلى الله عليه وسلم؟! وفيم مراؤك؟! ولكن بقية ظن خامرت لبي وقلبي وأخذت بي إلى تقصي الأمر من أصوله للتحقق من صحته. وما أكثر ما تعين هذه الشبكة المعلوماتية الدولية على تقصي الأمور وتجليتها. وعندئذ ألفيت القصيدة مدرجة في طوايا الموقع الإلكتروني للشاعر نزار قباني. ثم عثرت عليها باسم الشاعر من ضمن محتويات الموسوعة العالمية للشعر العربي. وكفى بهذين مرجعين يغنيان عن مزيد تقصٍ. ولكن بعد ذلك لم أطمئن إلى مرجع القصيدة إلى نزار. ولم يطل بحثي حتى أطل شاعر سعودي، يدعى يحيى توفيق حسن، يقول في لهجة صدق وتواضع إن القصيدة له وإنها لا تمت إلى نزار بصلة. وقد أشهر شاعر الجزيرة العربية حجة قوية مقنعة حيث أحال إلى ديوانه الذي حوَى تلك القصيدة وهو صادر من زمان مديد. وكان الشاعر السعودي قد نظم قصيدته قبل أن مات نزار. ووردت إلى الخاطر قرينة دلت على صدق الشاعر فليس سهلاً أن ينتهب أحد من شعر نزار قباني. فقد كان أشهر من أن ينتحل شعره إذ كان هو حارساً يقظاً شرساً، يرعى قريضه، ويحمي حماه، ويرتزق منه، حيث أنشأ دار نشر خاصة لنشره وبيعه. وإذا رجحنا بل قطعنا أن القصيدة ليست لنزار فإنا معترفون ومقرُّون بعد ذلك أنها نزارية النكهة والروح. وأنها نزارية أيضاً في مزاجها السياسي، حيث تسترجع بعض ما جاء في قصائده الحسان، التي من أشهرها «بطاقة اصطياف إلى الخامس من حزيران» و«مفكرة عاشق دمشقي» و«متى يعلنون وفاة العرب؟». فهذا الشاعر السعودي متأثر جد التأثر بنزار، شأنه شأن شعراء أخر من أبناء الخليج العربي، أشهرهم غازي القصيبي وسعاد الصباح. ومن بطاقة الشاعر يحيى توفيق حسن عرفنا أنه من مواليد عام 1929م، أي أنه من أتراب نزار المولود في هذا العام نفسه. وأنه حصل على دبلوم في اللغة الإنجليزية، وعمل في عدد من شركات القطاع الخاص ببلاده. وأنه أصدر دواوين شعر متعددة منها «أودية الضياع» في عام 1938م، و«سمراء» في عام 1985م، و«افترقنا يا زمن» في عام 1987م، و«ما بعد الرحيل» في عام 1990م، و«حبيبتي أنت» في عام 1992م. وهذه هي أبيات القصيدة التي انتشرت على أنها لنزار وهي ليست له. وقد زادت تلك النسبة الموهومة انتشارها حتى وقعت في يد مغن ومادح، من بلاد السودان، هو الفنان الراحل محمود عبد العزيز، رحمه الله، فأشجى بها جمعاً من عشاق رسول الله، صلى الله عليه وسلم ورنَّحهم. قال الشاعر: عزَّ الوُرُودُ وطال فيك أُوامُ وأرِقتُ وحديَ والأنامُ نيام ورَدَ الجميعُ ومن سناكَ تزوَّدوا وطُردتُ عن نبعِ السَّنى وأقاموا ومُنعتُ حتى أن أحومَ ولم أكدْ وتقطعتْ نفسي عليكَ وحاموا قصدوكَ وامتدحوا ودونيَ أُغلقتْ أبوابُ مدحكَ فالحروفُ عُقام أدنو فأذكرُ ما جنيتُ فأنثني خجلاً تضيقُ بحَمليَ الأقدام أمِن الحضيضِ أُريد لمساً للذُّرَى جلَّ المقامُ فلا يُطالُ مقام وِزرِي يُكبِّلُني ويُخرسني الأسى فيموتُ في طرَفِ اللسانِ كلام يممتُ نحوكَ يا حبيبَ اللهِ في شوقٍ تقضُّ مضاجِعي الآثام أرجو الوُصولَ فَليلُ عمري غابةٌ أشواكُها الأوزارُ والآلام يا من وُلدتَ فأشرقتْ بربوعِنا نفحاتُ نورِكَ وانجلى الإظلام أأعودُ ظمآناً وغيريَ يرتوي أُيرَدُّ عن حوضِ النَّبي هُيام كيفَ الدُّخولُ إلى رحابِ المصطفى والنَّفس حيْرَى والذُّنوبُ جسام أو كلَّما حاولتُ إلماماً به أزِفَ البلاءُ فيصعبُ الإلمام ماذا أقولُ وألفَ ألفَ قصيدةٍ عصماءَ قبلي سَطَّرتْ أقلام مدحوكَ ما بلغوا برَغمِ ولائِهم أسوارَ مجدِك فالدُّنُو لِمام ودنوتُ مذهولاً أسيراً لا أرى حيرانَ يُلجمُ شعريَ الإحجام وتمزَّقتْ نفسي كطفلٍ حائرٍ قد عاقَه عمَّن يُحبُّ زِحام حتى وَقفتُ أمامَ قبرِك باكياً فتدفَّقَ الإحساسُ والإلهام وتوالتْ الصُّورُ المضيئةُ كالرُّؤى وطوَىَ الفؤادَ سكينةٌ وسلام يا مِلءَ رُوحي وهجُ حبكَ في دمي قَبسٌ يُضيء سريرَتي وزِمام أنتَ الحبيبُ وأنتَ من أروَى لنا حتى أضاءَ قلوبَنا الإسلام حُوربتَ لم تَخضعْ ولم تَخشَ العِدا من يَحمِه الرَّحمنُ كيف يُضام وملأتَ هذا الكونَ نوراً فاختفتْ صُورُ الظَّلامِ وقُوِّضتْ أصنام الحُزنُ يَملأُ يا حبيبُ جوارحِي فالمسلمون عن الطريقِ تعاموا والذُّلُّ خيَّمَ فالنفوسُ كئيبةٌ وعلى الكبارِ تَطاولَ الأقزام الحزنُ أصبحَ خبزَنا فمساؤُنا شجنٌ وطعمُ صباحِنا أسقام واليأسُ ألقى ظلَّه بنفوسِنا فكأنَّ وجهَ النَّيِّرينِ ظلام أنَّى اتَّجهتَ ففي العُيونِ غِشاوةٌ وعلى القُلوبِ من الظَّلامِ رِكام الكرْبُ أرَّقنا وسهَّدَ ليلَنا من مَهدُهُ الأشواكُ كيف ينام يا طيبةَ الخيرات ذّلَ المسلمون ولا مُجيرَ وضُيِّعت أحلام يُغضُونَ أنْ سَلبَ الغَريبُ ديارَهم وعلى القريبِ شَذَى التُّرابِ حرام باتوا أُسارَى حيْرةٍ وتمزُّقٍ فكأنَّهم بين الوَرَى أغنام نامُوا فنامَ الذُّلُّ فوقَ جُفونِهم لا غرْوَ ضاعَ الحزمُ والإقدام! وقد حذفنا من آخر القصيدة بيتاً فيه استغاثة وتوسل برسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأنه مما لا يجوز من حيث الاعتقاد. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.