أصبح رفع الدعم عن بعض السلع أمراً واقعاً.. ودخل مرحلة التنفيذ ضمن عملية الإصلاح الاقتصادي ليعبر الاقتصاد السوداني آخر عقبة من العقبات التي ظلت تقيد حركته وتعطل نموه.. فبلادنا غنية بمواردها الطبيعية ومعادنها وبترولها الواعد وأراضيها الخصيبة المنتجة مياهاً الدافقة نيلاً وأمطاراً ومياهاً جوفية.. واقتصادنا يمكن أن يتحول إلى عملاق في القارة الإفريقية والعالم الثالث إذا أحسنا التعامل معه والإيمان بعطائه اللامحدود.. انظر إلى عائدات الصمغ العربي وصادر الثروة الحيوانية وصادر الحبوب الزيتية وصادر الفواكه والخضروات وصادر الذهب والحديد والمعادن الأخرى وحتى صادر المياه وغيرها من السلع الأصيلة التي يتمتع بها اقتصادنا ويتميز بها عن البلدان الأخرى. ونحن بوصفنا شعباًَ سودانياً وقعنا في شراك الاستهلاك الزائد في كل شيء.. هل يذكر الآباء مم كانت تتكون «صينية الغداء» هنا في العاصمة في الستينيات والسبعينيات؟.. فقد كانت عبارة عن صحن واحد به ملاح «ويكة، ملوخية، قرع، بطاطس، كشنة، دمعة» وحوله عدة لفافات من الكسرة ورغيف واحد من أم قرشين مقسمة إلى أربع قطع فوق لفافات الكسرة.. ويجلس أفراد العائلة كلهم حول تلك الصينية.. وعند نفاذ الملاح من الصحن توضع بقية الكسرة في الصحن ويوضع بعض الماء على تلك الكسرة ويتم القضاء على بقية الكسرة وكان الله يحب المحسنين، وكانت الوجبة مباركة لكثرة الأيادي عليها والرضاء التام بما أتاهم الله من غذاء الكسرة. وهذا مجرد أنموذج للتذكرة وليس لإمكانية العودة إلى ذلك التاريخ.. فقد تعودنا على الخبز الفاخر منذ أن دخلت بلادنا المخابز الايطالية والتركية والفرنسية والألمانية.. وكنا نعيش في أمن غذائي مكتمل بالخبز الشمسي من فرن سيحة والمرحوم عبد الله سيد فحل والعديد من المخابز البلدية التي كانت سائدة ثم بادت وقل عددها وضعف إنتاجها أمام المخابز الجديدة الفاخرة. وبين يدي كتاب يتحدث عن هذا الشرك وكيف نصب لنيجيريا التي كانت تأكل مما تزرع وتكتفي ذاتياً من الغذاء، وبعد ظهور البترول وقعت نيجيريا في شرك المؤامرة والغذاء، فانهالت عليها أطنان من القمح الرخيص من أمريكا واستوردت المخابز الفاخرة .. فصارت نيجيريا أكبر دولة منتجة للبترول في أفريقيا عاجزة عن إصلاح اقتصادها وتوفير قوتها، فصارت أسيرة القمح الأمريكي والخبز الفاخر.. وكما جاء في كتاب «شراك القمح» فإن سلطة القمح صارت أداة سياسية وأمنية تتحكم بها في الدول المستهلكة، ولذلك ينبغي علينا وبمناسبة الإصلاح الاقتصادي أن نعود إلى زراعة قمحنا في أراضينا الواسعة.. فلدينا الأرض والمياه ولا ينقصنا إلا الطاقة الكهربائية.. وينبغي على وزارة الكهرباء والري أن تقوم بدورها في إمداد المشروعات الزراعية الكبيرة والصغيرة في الشمالية ونهر النيل لإنتاج القمح الذي يقلب المعادلة ونتحول من الاستيراد إلى التصدير .. وليس تحقيق الكفاية .. فهلا تحركت وزارة الكهرباء بناءً على القناعة التي بلغناها بضرورة أن نزرع القمح وابتداءً من هذا الشتاء وفي الشمال تحديداً؟