استنزفت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب طوال عقود مواردنا، وضاع فيها رجالنا وشبابنا، ودفعنا الثمن في الجنوب والشمال باهظاً. سقطت حكومات.. واستشهد في سبيلها الشهداء وقادت البلاد إلى الحكم العسكري أكثر من مرة وإلى وأد الديمقراطية مرات.. قصة بدأت فصولها وتداخلت منذ عام 1821م وحتى يومنا هذا، فقد فتحت الأبواب للتدخّل الخارجي وسرعة انتشاره لتحقيق شعارات المؤتمر الكنسي عام 1830م وشعارات الاستعمار وتحقيقه أهدافه «فرِّق تسد» كما لعبت إسرائيل والكيان الصهيوني دوراً رئيساً أدى إلى تحقيق أحلامهم ووصولهم إلى منابع النيل وتلك من كوارث نيفاشا التي سعت مراكز القوى العالمية لتحقيقها وأكلنا طعمها ووضعنا الوطن الآن ومن جديد على حافة التمزُّق وتجدّد القتال ونحن ندعي بأننا دولة إسلامية ونسينا أن توجهنا الإسلامي الذي تتبناه الحكومة أوقفته اتفاقية نيفاشا لأننا كنا أقوى جسر أو بوابات للتفاعل ونقل الحضارة والثقافة لدول وسط وشرق أفريقيا والعمل على إعادة إمبراطورية أفريقية حرّة نتحكم في مواردها وتعمل لصالح شعوبها ككتلة واحدة يجمعها المزيج أو التركيبة العربية الزنجية وبالتالي تكالب الغرب ومطابخ السياسة فيه لإيقاف هذه الطموحات، فالأرضية كانت صالحة لجميع أنواع الطعام فكان «طعام» نيفاشا الفاسد الذي أدى لفتح بوابات جديدة لمزيد من التمزّق في النسيج الاجتماعي. لقد ظللنا عبر صحيفة «الإنتباهة» نطرح الأخطاء ونضع الحلول وسلّطنا الأضواء الكاشفة على سحب دكناء لن تفارق ديارنا إلا بمزيد من الاقتتال وضحايا تقود إلى تدخل خارجي مقصود وكتبنا أن المؤتمر الوطني لا يمثّل البلاد ولا يحق له الدخول في مثل هذه القضايا الحساسة التي تمسّ أمن الوطن ومستقبل أجياله دون الرجوع إلى القوى السياسية والخروج بورقة موحدة تناقش وتحدد الحدود والقضايا وترسم خريطة طريق جديدة للعلاقات بين الشمال والجنوب.. وبحكم التخصص استعرضتُ كل العقبات وأوضحتُ كل الاتفاقيات وأبَنت ما أفرزته التجربة من الكتلة السوداء عام 1974م التي أعتقد أن اتفاقية الميرغني قرنق أخذت به وأعدته دليلها لإعادة الروح للوطن الجريح لكن تطور الأحداث السياسية وظهور الإنقاذ وأد تلك الاتفاقية للأسف الشديد. كما أبنت في سلسلة مقالات وأوضحت أن الحركة الشعبية لا تمثل الإرادة الجنوبية ولا الأحزاب أو المنظمات وإن ما سيحدث سيقود إلى كوارث وخلافات بالرغم من أن التجمُّع الوطني الذي قاده الميرغني وأبو عيسى هو الذي جعل للحركة وجوداً عربياً وأفريقياً وعالمياً، وهذا ما ندفع عنه الآن. اتفاق نيفاشا خلق العديد من المشكلات وفتح الأبواب لمزيد من الصراعات وأبان أن التعاون والتفاهم مهما كان فهو ديكور مصنوع بجميل اللقاءات ويلهب حماس أجهزة الإعلام ثم نعود من جديد في تحديات ومؤتمرات. مشكلة أبيي هي مشكلة الساعة أو القنبلة الموقوتة في ظل التطورات الراهنة بعد ظهور البترول فهي الآن مثار خلاف حاد لم تحسمها الزيارات ولا الابتسامات البروتوكولية ولا اللقاءات الثنائية فهي الآن بمثاية البداية التي بدأت تدير مفاتيحها لدخول القوى العالمية والمساهمة في الحل وربما تدخل قوات أجنبية للفصل بين القبائل المتنازعة أو المتحاربة. وهنا لا أريد أن استعرض الخلافات الطويلة ولا التسليح ولا ما جرته الانتخابات التي جاءت بالمهدي رئيساً ورد الجميل ولا ما أفرزته القوى الصهيونية ونفذته الحركة الشعبية بصب الزيت على النار فمات من مات وهاجر من هاجر وأصبحت المخيّمات هي السمة الرئيسة عقب كل نزاع في بلادنا في ذات الوقت لا أريد أن أتطرّق إلى ما طرحه عضو قيادي في المؤتمر الوطني أدى إلى تجدد هذا النزاع. ودون الرجوع إلى ما هو معروف من آثار استعمارية سعت لزرع الفتنة والكراهية بين الشمال والجنوب منذ مطلع القرن العشرين والعمل على زيادة واستغلال التباين العرقي والسلوك العنصري الذي اعتنق مذهبه زعماء الجنوب منذ الجمعية التشريعية إلى يومنا هذا والذي ترسّب في النفوس إلا أن أهم ما نطرحه تجاه قضية أبيي هذه النقاط: 1 إن الإشكالية المهمة والمثيرة للجدل والخلاف هي الحدود بين البلدين وهي التي تمتد لنحو 1950 كيلو متراً ما بين خطي عرض 9ْ و21ْ شمالاً التي تمتاز بالثروات المتعددة نفطية ومعدنية وحيوانية وحركة بشرية سكانية تتبادل المنافع تحت مظلة عرقية أفلح الزعماء في التوافق من قبل وحل النزاعات القائمة وإطفاء نار اللهيب قبل أن تستفحل. 2 طبقاً لاتفاقية السلام الشامل فقد تم اعتماد خط حدود الجنوب وفقاً لحدود 1 يناير 1956م واعتمدت اتفاقية أديس أبابا الخط نفسه في إطار المفاوضات زمن حكومة الرئيس نميري عام 1972م التي أدّت إلى إيقاف الحرب وطي صفحة الخلافات وإنهاء المرحلة الأولى من الاقتتال الذي بدأ منذ عام 1955م. وقد تجسّد الخط المتفق عليه في قانون الحكم الإقليمي الجنوبي الذي اعتمده كخط للحدود الإدارية. وعند ظهور البترول تغيّر الحال وتعدّدت المطامع وتحوّل الأمر إلى مشكلة معقدة مع توسع الحكومة في التنقيب وهو ما قاد إلى خلافات وصراعات بين الجانبين. 3 أما البرلمان في الشمال فقد قام بتحديد الخط الحدودي الجنوبي دون أن يعتمد على عمليات مسوح أو امتلاكه لملامح طبوغرافية للخرائط الحديثة وهو الأمر الذي أدى إلى اشتعال الخلاف وبداية جديدة لاستنزاف الموارد وتعدد الخلافات بين القبائل جعل السلاح محمولاً على الأكتاف في انتظار ساعة الصفر التي نأمل أن تطول وأن يحل الخلاف. 4 أما المناطق الحدودية المختلف عليها فهي تتمثل في: أ) أبيي . ب) التداخل ما بين قبيلتي دينكا ملوال والرزيقات بين ولاية جنوب دارفور وولاية شمال بحر الغزال. ج) والحدث الأهم حقول النفط في ولايتي الوحدة وجنوب كردفان. د) مناطق الزراعة الآلية على امتداد ولايات النيل الأزرق وأعالي النيل وجنوب كردفان. ه) منطقة شمال النيل في ولاية النيل الأزرق. و) خط الحدود الشمالية لولاية أعالي النيل. ز) منطقة حفرة النحاس في ولايتي جنوب دارفور وبحر الغزال. هذه النقاط هي التي ستفجّر الوضع في البلاد وربما تقود إلى ظهور دولة جديدة إذا لم نتدارك جميعاً الوضع ونسعى لوضع الحلول المناسبة. أما أبيي قضية الساعة التي تتناولها أجهزة الإعلام العالمي بالتحليل وتسعى المطابخ الأجنبية والصهيونية لتصعيدها ما بين الاستفتاء الآحادي المرفوض محلياً وأفريقياً وعالمياً من قبل الدينكا أو المسيرية فهي نقطة الخلاف التي ربما تؤدي إلى مزيد من الخلافات واشتعال المنطقة من جديد. فالمنطقة نفسها كانت في حالة تبعية في فترات مختلفة منذ مطلع القرن العشرين ما بين ولايتي كردفان وبحر الغزال وبالتالي كادت تنسف اتفاقية السلام عام 2005م الأمر الذي أدّى إلى عقد بروتكول خاص بأبيي في إطار اتفاقية نيفاشا انطوى على إجراء استفتاء بالتراضي مع استفتاء تقرير المصير في يناير 2011م ولم يتم ذلك نتيجة للخلاف بين قبائل الدينكا والمسيرية. وجاء الخلاف بعد لجنة ترسيم الحدود عام 2005م الذي رفضته الحكومة باعتباره قد تجاوز الحدود وكان الحل اللجوء إلى محكمة لاهاي «محكمة العدل الدولية» التي أصدرت قرارها في 22 يوليو 2009م بحل توافقي رفضته قبيلة المسيرية لأنه اقتطع حوالى 50% من أراضيها ذات المياه والخيرات. أما ما بعد محكمة لاهاي فقد التزمت رئاسة الجمهورية بتكوين مفوضية لترسيم الحدود على الفور ولقي القرار ترحيباً حاراً من الجانبين خاصة بين المسيرية والحركة الشعبية والدينكا كما أصدرت رئاسة الجمهورية قراراً بتنفيذ قرار المحكمة وترسيم الحدود على الأرض. أما رد فعل الحركة الشعبية فقد قالت بأنه قرار مقبول وأيد ذلك مالك عقار وناشد الطرفين بالتريّْث لمصلحة البلاد. بينما أكد رحمة عبد الرحمن النور نائب رئيس إدارية أبيي أن القرار لن يؤدي لأي انفلات. أما قرار محكمة العدل الدولية فقد جاء كالتالي: الحدود الشمالية لمنطقة أبيي عند دائرة عرض 01ْ وعشر دقائق وعشر ثواني والحدود الغربية هي خط طول 27ْ وخمسين دقيقة والشرقية عند خط طول 29ْ أما التداخل القبلي ولمصلحة القارئ نوضحه في: أن حدود أبيي تشمل: أ) تقع في الشريط الحدودي بين إقليمي جنوب السودان وشماله تحدها من ناحية الشمال الشرقي ولاية جنوب كردفان «جبال النوبة ومناطق المسيرية»، ومن جهة الشمال الغربي ولاية جنوب دارفور، ومن جهة الغرب ولاية شمال بحر الغزال، ومن الجنوب «ولاية واراب» ومن الشرق ولاية غرب أعالي النيل. هذا الموقع تعددت فيه القبائل منذ زمن بعيد وكان التعايش والمصاهرة هي ديدن نظّار تلك المنطقة التي تضم قوميات متعددة كقبائل الدينكا ملوال والدينكا كالوج في كل من الجهة الغربية والجنوبية والدينكا موبنق وفان رد بأعالي النيل الغربية وقبائل النوير من الشرق وفي حدودها الشمالية والشمالية الغربية قبائل النوبة والمسيرية ودارفور. أما الآن فقد بدأت سُحُب الدخان والتحديات وتفاقم في التصريحات والمطالبة بصيغة جديدة تطفئ نيران الاشتعال ولذلك أعيد ما ذكره د. كارلو أيويل رئيس اللجنة التنسقية العليا لمجتمع أبيي أن قرار محكمة لاهاي سيفتح صفحة جديدة بين المسيرية والدينكا، بينما قبل حريكة محمد عثمان أمير عام عموم المسيرية بالقرار وأضاف قائلاً: نحن نقبل إقامة دينكا نقوك في نفس الأرض واستقبلنا القرار بكل ارتياح. ولإطفاء هذا الحريق فأهل مكة في رأينا أدرى بشعابها فكثير من الخلافات والصراعات كانت تصل الذروة والعقلاء يتدخلون وتنتهي الخلافات. إن كاتب المقال يدعو لقيام مؤتمر خاص للقبائل في تلك المنطقة تحت رعاية حكومة الشمال والجنوب فقط، دون تدخل أجنبي، مع الاستفادة من كل الدراسات التي وضعت والخروج بما يفيد قبائل المنطقة ويحافظ على وحدة تراب الوطن للانطلاق نحو التنمية والنماء. ويتبع.. ٭ المراجع: دوغلاس جونسون، أثر إقامة الحدود على اتفاقية السلام. يحيى التيكينة، الصحافة السودانية ودورها في مشكلة الجنوب. محمد المعتصم، ج السودان في مائة عام.