في عام «2003» على أيام حكم الفريق «م» إبراهيم سليمان لولاية شمال دارفور تبلورت فكرة لقيام مؤتمر بالفاشر يسعى لجمع أهل دارفور في كلمة سواء من أجل إعادة الاستقرار والأمن للإقليم. ووجدت الدعوة وقتها استحسان أهل دارفور بكل بطونهم وأفخاذهم، وقام المؤتمر بالفعل بمدينة الفاشر حيث مثل تنامي الحركات المسلحة خطر يهدد كل دارفور وبدأت مقولة «نفتح المسارات نوزع الحواكير دارفورنا بشيلنا كفانا خلافات تكاد لا تجد أذناً صاغية تسمعها.. وتتجاوب معها». كان أمام أهل دارفور على اعتبار أنهم المنكوين بنيران التمرد وأهل المصلحة في الاستقرار أن يضعوا مقترحات بالحلول للحكومة المركزية لتمضي في تطبيقها ومباركتها وهي أما مسار «الحسم العسكري» أو «الحوار» فكان أن خرج المؤتمر انطلاقاً من رؤيته بأن الأزمة في الأصل مسألة اقتصادية وسياسية وعسكرية وبالتالي ينبغي أن تعالج عبر التفاوض مع قادة الحركات المسلحة. سارت الحكومة في مسار التفاوض على اعتبار أنه خيار أهل دارفور وما خرج به مؤتمر أهل المصلحة في الفاشر ففاوضت الحكومة حركات دارفور في أبوجا وفي الدوحة ونتج عن المفاوضات التي استغرقت وقتاً اتفاقيات إعادة عدد من المتمردين الذين انخرطوا في أجهزة الدولة لكنها لم تحسم التمرد بصورة نهائية إنما ظلت الحركات المسلحة تغير أسمائها وتبدل قياداتها من حين لآخر، وشهدت بداخلها عدداً هائلاً من الانشقاقات وطال التمرد علاقات القبائل وأثر فيها، ولا يزال المجتمع الدارفوري يدفع حتى اليوم فاتورة الاختلالات الأمنية التي طالت الإقليم بسبب المساندة التي وجدها قادة الحركات المسلحة من بعض القبائل الدارفورية ورغم قيام السلطة الإقليمية في دارفور فإن الصورة تبدو قاتمة والمساعي الرسمية التي بذلها دسك الحكومة والمؤتمر الوطني في الوصول لسلام في دارفور بمساندة وساطة الحكومة القطرية بعيدة عن لملمة جراحات أهل دارفور وإقناع الحركات بوضع السلاح وترميم تشوهات الحرب في المشهد الدارفوري ككل بالانخراط في سلام دائم وحقيقي فكانت مخرجات مؤتمر الفاشر في عام 2003 بالتسلسل الذي ذكرت أنه فاشل طالما أن أهل المصلحة لم يستطيعوا أن يلعبوا الدور المنوط بهم في إقناع حملة السلاح بترك الحرب. ولم تكن الحروب المتبادلة والتوترات العنيفة بين الحكومة السودانية والتشادية التي وصلت حد تهديد الخرطوم ونشير هنا لمحاولة قوات خليل إبراهيم لغزو أم درمان والعكس أيضاً تهديد انجمينا بعيدة عن انعكاسات المشهد في دارفور نختصر كل المراحل الزمنية السابقة وما شهدته من حراك في الملف الدارفوري لنصل لملتقى أم جرس الذي انعقد في الأسابيع الماضية وكيفية الترتيب له وما هي ضرورات قيامه في الوقت الراهن وما صلة الرئيس التشادي إدريس دبي به ومن هم الذين شاركوا فيه وإلى أي مدى ترمى مخرجات الملتقى. يكتسب ملتقى أم جرس الشادية أهميته في ظهور الرئيس إدريس دبي بنفسه في هذا الملتقى مخاطباً الذين شاركوا فيه. ويثير اللقط الذي عم المجتمع الدارفوري حول هذا الملتقى كونه انحصر في قبيلة الزغاوة دون غيرها من القبائل الدارفورية المعنية بالحرب مثل الفور والمساليت. وكونه أيضاً تزامن مع عمليات عسكرية ضخمة للجيش السوداني في تخوم مناطق جنوب كردفان مع الجنوب.. ومن ما أشرت إليه يبقى أي حديث عن تمويل الملتقى معلوم بالضرورة. بصورة علنية بدأ الإعداد لملتقى أم جرس قبل عيد الأضحية بفترة قصيرة وفي حلقة كانت ضيقة جداً بين قيادات الزغاوة وعقد أول اجتماع علني حوله في الثاني والعشرين من أكتوبر الماضي ومن بين قيادات الزغاوة البارزين الذين حضروا اللقاء «35» عضواً منهم اللواء «م» التجاني آدم الطاهر وآدم الطاهر حمدون وحسن برقو والوزير محمد بشارة دوسة وبحر أبو قردة، غادر الوفد في اليوم الثاني مباشرة إلى ابشي ثم إلى أم جرس.. بمشاركة قيادات الإدارة الأهلية كان البساط أحمدي ما بين قيادات الزغاوة والرئيس إدريس دبي الذي حكى داخل المؤتمر أثناء مخاطبته المؤتمرين بلغة الزغاوة كل المرارات وتحدث وأصفح وأبان بمعلومات غزيرة عن طبيعة الصراع وكان وزير الصحة بحر أبو قردة يتولى ترجمة حديث الرئيس دبي من لغة الزغاوة للغة العربية لبعض الذين شاركوا في الملتقى من الضيوف من غير الزغاوة ركز الملتقى على أبناء الزغاوة على اعتبارهم قوام التمرد سار الاتجاه في تفويض الرئيس دبي ليتحدث مع الحركات المسلحة ليتركوا الحرب ويعودوا للسلام أو حسمهم عسكرياً في حالة رفض خيار السلام.. وجد هذا الاتجاه مقاومة من بعض الأصوات للإدارة الأهلية داخل الملتقى لكنها كانت أصوات تحسب على أصابع اليد. ترك ملتقى أم جرس الكثير من التساؤلات حول تفويض إدريس دبي هل هو تفويض منحصر في دار زغاوة أم لكل الحركات المسلحة علماً بأن الحركات المسلحة ليس حصرياً على الزغاوة إنما هناك قبائل أخرى تحمل السلاح في دارفور وكيفة الحسم العسكري في حال فشل جهوده في سلام مع حملة السلاح هل هو على غرار التدخل في مالي تحت رعاية دول غرب إفريقيا بدعم من فرنسا أم ماذا؟.. وتبقى الضبابية حول الجهة التي دعت الملتقى هي مسار سؤال صريح خاصة بعد رفض السلطان دوسة وزير العدل صلته بها. لكن أياً كان الذين نظموا الدعوة أعتقد أن جهود الرئيس دبي إصلاح شأن الحركات المسلحة مطلوبة خاصة بعد التحسن الذي طرأ في العلاقة بين البلدين والتحول في المواقف العدائية لمواقف إيجابية تدعم التعاون المشترك الذي تأتي في أولويته المسائل الأمنية فليس من هم بين السودان وتشاد أعظم من الأمن الحدودي طالما السودان يمثل بعداً إستراتيجياً أمنياً لتشاد والعكس مع التداخل القلبي المعروف بين البلدين والمصالح الاقتصادية والتجارية. ولذلك فالتنسيق في الملفات الأمنية هو البداية الصحيحة لعلاقات راسخة ومستقرة بين البلدين والرئيس دبي هو الرجل المناسب في إدارة حوار مع حملة السلاح ولا أعتقد أن بدايته مع الزغاوة ينبغي أن تثير كل هذه المخاوف فالزغاوة هم عشيرته الأقربون فمن باب أولى أن يبدأ بهم حتى لا ينطبق عليه مثل باب النجار مخلع بعدها يمكن لجهوده إذا حظيت بتوفيق ونجاح أن تنداح لتشمل الآخرين خاصة أن الجهود الأهلية المتمثلة في القبائل والإدارة الأهلية تمثل مفتاحاً آمناً لبث الطمأنينة في قادة الحركات المسلحة من أجل الجلوس للحوار. أعتقد أن الظروف كلها مواتية الآن للعب الرئيسين دبي والبشير دوراً حاسماً في استقرار دارفور مهما كانت كلفته.