٭ ذكرت في المقال السابق أن الدول توزن بتأثيرها خارج حدودها، وكي تبلغ الدولة ذلك الوزن الخارجي، فإن عليها أن توطد لسياسة داخلية راسخة، فالسياسة الخارجية لأي دولة إنما هي انعكاس للسياسة الداخلية وترجمة لها. وتناقض السياسيين يربك أول ما يربك ذات النظام صاحب التناقض، إذ يقوم بالداخل ما يناقضه تماماً بالخارج، الأمر الذي يجعله يقع فريسة سهلة في يد الكبار، الذين يفرضون عليه الشروط القاسية ليسوم شعبه سوء العذاب.. من هذه الشروط تحرير الاقتصاد وخفض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب والوقوع في فخ تخفيض العملة لتتدنى قوتها الشرائية لأدنى درجة لتدخل الدولة في دوامة التضخم والكساد الأمر الذي يقود الدولة إلى الإفلاس. هذا الواقع انقلب على صانعه، فالعالم الغربي اليوم يخوض ثورة من نوع آخر، ثورة ليست من أجل إسقاط النظام إنما ثورة على الذي يوطد للنظام. المال.. فكل العالم اليوم يثور على وول ستريت وأباطرة ذلك الشارع الذي اطلقوا عليه اسم وور ستريت أي شارع الحرب، اندلعت الثورات في المدن الأمريكية وتبعتها الف مدينة من مدن العالم الكبرى، في أول ثورة حقيقية تندلع في العالم أجمع، ثورة حذر القرآن الكريم من توافر عناصرها «كي لا يكون دولة بين الأغنياء» .. «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها».. هذه هى المعاني والقيم التي يبحث عنها إنسان اليوم الذي يعيش أظلم جاهلية عرفها التاريخ رغم أنها مغلفة بغلاف إليكتروني. سياسة أمريكا الداخلية مطابقة تماماً لسياستها الخارجية، تستهلك شعبها لخدمة وول ستريت كما تستهلك شعوب العالم ومواردهم لذات الغرض، حتى يكون المال دُولة بين الأغنياء ليتحكموا في كل العالم. كبريات الدول في أوربا على شفا الإفلاس، اسبانيا التي اكتشفت أمريكا واظهرتها للوجود في طريقها للزوال وكذلك البرتغال، دولتان ذواتي إرث تاريخي عريق دخلهما الإسلام أول ما دخل أوروبا، هذه الدول بذاك التاريخ في الطريق السريع للإفلاس، اختزل كل ذلك التاريخ فيهما في رونالدو وميسي..! اليونان وإيطاليا ليستا في حاجة لتعريف فالاسكندر وقيصر اللذان قادهما الى المجد سابقاً يقودهما الآن وول ستريت للإفلاس والانهيار. وبعد هذا الاستعراض المختصر لحال العالم اليوم نعود الى حالتنا السياسية الداخلية منها والخارجية واللتين أدخلتانا في تناقض خطير وقاتل.. فبدلاً من أن تكون سياستنا الخارجية انعكاساً حقيقياً للداخلية صارت نقيضاً وهذا ما أفقدنا الوزن الإقليمي والعالمي، فكلما ازداد وزن النظام داخلياً ازداد وزنه خارجياً في تناسب طردي، ولنذكر على سبيل المثال رجب طيب أردوغان في الشرق الأوسط ووزنه داخلياً وإقليمياً وعالمياً تظهر لنا حقيقة ما نقول واضحة للعيان لا تحتاج منا لفصيح بيان إنما تحدِّث عن نفسها بنفسها.. السياسة الداخلية في السودان تعيش مأساة حقيقية وتناقض بيِّن مع ذاتها ومع سياستها الخارجية التي يُفترض أن تكون صورة طبق الأصل يراها كل العالم، ولكن الخطأ القاتل هو أن من يعرفون ب «الإسلاميين» عرضوا أنفسهم أولاً وهي نفوس فانية ولم يعرضوا منهجهم الباقي إلى يوم الدين. حدث هذا رغم أن رسول الإنسانية عليه الصلاة والسلام أعطانا المثل والقدوة، فقبل النبوة قدم للناس الصورة المثالية حتى عرف بينهم بمحمد الأمين، فكان الحكم فيما يشجر بينهم من خلاف، هكذا قدم محمد الأمين نفسه لقومه وهو لا يعلم حينها أنه سيكون مرسلاً من عند الله إليهم وأعدل حاكم تعرفه البشرية منذ خلق آدم وإلى قيام الساعة. وكانت الكارثة في تقديم النفس بغرض الحكم دون منهج يدير ذلك الحكم، والذي يبقى هو المنهج، وغيابه يعني الفوضى والتمزق الأمر الذي نعاني منه الآن. يتحكمون فينا بقناعات فردية وتحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، وبقناعات فرعونية قاطعة «ما أظن أن تبيد هذه أبدا».. لنا ملك السودان والأنهار تجري تحتنا» «سآوي إلى جبل...».. وبهذه القناعات الفردية لا يمكن ان تقوم دولة العدل التي ننشد والتي تجعل لنا وزناً بين الأمم. فالطغاة دائماً ما يقدمون أنفسهم، ويلتف حولهم المنافقون كما يلتف الذباب حول الجيفة، وهنا تبدأ عبادة الفرد الفاني من دون الله، ويسود الفساد بين العباد وتنعكس الصورة بحذافيرها للخارج، وكلما زاد الفساد وتفشى في الأمة ضاعت فيها القيم وخف وزنها حتى ينعدم تماماً فيأتيها أمر الله وحينها لا تجد من يذرف دمعة عليها، بل تجدهم يشحذون سكاكينهم لينال كل منهم جزءاً من الغنيمة. ولا حول ولا قوة إلا بالله. أليست هذه هي اللحظات التي توجب المراجعة، والتغيير الشامل ونبذ القناعات الشخصية غير المؤسسية التي لم تبن على دين أو فلسفة، أما حان الوقت لنبذ الأوهام الفرعونية الكاذبة، وقناعات ابن نوح الساذجة التي لا عاصم لها من أمر الله؟ إذا غاب العقلاء تسيدت الغوغاء التي لا تعرف النت ولا الفيس بوك ولا الرسائل الاليكترونية ولا اسلوب التظاهر السلمي ولا حتى تغيير النظام واسقاطه فهي لا تحتكم الى قيم وأخلاق ودين فهؤلاء ليس لديهم ما يخسرونه فهم أداة تدمير لا تعرف غيره قيماً ولا مبادئ. أحقاً هذا ما نُقاد إليه؟ بماذا سنجيب عن سؤال الملائكة يومئذٍ فيم كنتم؟ وبماذا سيجيب أصحاب القناعات الفردية المستمدة من أوهام فرعون وابن نوح؟ أفيقوا يا هؤلاء حتى لا نضطر للحس أكواع الآخرين.