وأنا أقرأ عن التقاوي التي رفضت أن تنتج قمحاً هذا الموسم وعن الأزمة التي فجرها أصحاب المخابز وانتهت بمجزرة الرغيف حيث تقلص وزنه وحجمه طافت بذهني خاطرتان: الخاطرة الأولى أنه في عام 1976م عندما كنت أقيم في مدينة تورنتو الكندية للدراسة وصلتني إشارة من أحد الأصدقاء يكلفني فيها أن أتفاوض مع أية جهة كندية وذلك لشراء قمح تعاقد هو على توريده للحكومة وإن هذه الصفقة إذا تمت «كلنا حننبسط». ولما كنت في حاجة ماسة للانبساط، أيقنت أن الرؤية التي رأيتها في المنام ستتحقق بإذن الله وقد رأيت نفسي في حقول خضراء ومروج غناء تشقشق فيها العصافير وتنشر فيها الشمس أشعتها على الكون.. وكل ما اعتدنا أن نكتبه في كراسة الإنشاء.. كل ذلك ينبئ عن أن عهداً من الانبساطة سيطل علينا «وناكل جبنة وزيتوني ونتعشى بباسطة بابا كوستا». حملت رسالتي واستعنت بصديقي فيصل زمراوي الذي كان قد حصل على الجنسية الكندية وطلبت منه أن يصحبني في رحلة الانبساطة تلك. وقد ظننت أن هذه المهمة لا تحتاج منا إلى كثير جهد فكندا بلد القمح وما علينا إلا أن نبحث في الصفحات الصفراء لدليل الهاتف فنحصل على خيط يوصلنا إلى مكان القمح وتجار القمح. ولكننا علمنا أن تلك المهمة أسهل منها أن نزرع القمح ونحصده ونرسله لصديقي، فالقمح موجود... نعم وبكميات هائلة... نعم ولكنه لا يُباع للغاشي والماشي من أمثالنا فهو سلعة إستراتيجية تدخل في بيعها مفاوضات وإبرام اتفاقيات وربما تنازلات عن بعض المواقف والالتزام ببعض المواقف والتصويت في الأممالمتحدة إلى جانب ذلك القرار وتجاهل القرار الآخر. والأمر إذن ليس بيعًا وشراء كما توهمت، ولهذا فهمت أن الاكتفاء الذاتي من القمح هو في الواقع تحرير للإرادة الوطنية. وأن السياسة المتبعة في هذا الشأن حتى ولو كلف إنتاج ذلك القمح الشيء الكثير تعني مزيداً من الكرامة وأطناناً من العزة والشموخ. وإذا فهمنا هذا الأمر في صورته المثالية نستطيع أن نقول إن الإنتاج الوفير من القمح السوداني يمكن أن يكون تحريراً لإرادة الأمة العربية كلها وإن القطن السوداني والمصري يمكن أن يرفع رأس الأمة العربية فوق احتياجاتها بين الدول الأخرى والفوسفات المغربي والتمور العراقية والفواكه والخضر الشامية تزيد من قامة الإنسان العربي في عالم لايرى إلا طوال القامة. وإنه هاهنا عالم يجوع لتلهو في مقادير عيشه طاحونة كما يقول البياتي ولكنها طاحونة في دول الشمال الغني. فهل نعمل لتحرير إرادة الأمة العربية؟ والخاطرة الثانية: هل قابلت رغيفًا في الآونة الأخيرة؟ ربما في بيت عزاء مثلاً؟ هل لاحظت أن الرغيفة المسكينة وبعد رحلة معاناة وحرق قد فقدت كثيراً من وزنها؟ أغلب الظن أن الجهات التي تعد الرغيف قد عرضته لجهجهة عصرية في العصرية حتى تقوم بتعليمه كيف يتجنب زيادة الوزن التي ربما تسبب له مرض السكري طالما أن النشويات تتحول في النهاية إلى جلكوز والجلكوز يتحول لسكر وبالتالي يرفع مستوى السكر في الرغيف. وقطعاً هذا ليس في صالح الرغيف. إن التدهور المستمر في وزن الرغيف كان مقصوداً وذلك مراعاة للأمور التي ذكرناها. ولكن هناك جانبًا آخر أدى إلى تدهور الرغيف بمثل تلك الحالة فهو يتعرض باستمرار إلى الغبار والأتربة المحملة بذرات بعر الغنم والحمير والنعاج والخرفان وفوق ذلك أطنان من ذرات التمباك الذي يُبصق في أي مكان نسبة لأن الرغيف يولد عارياً ويصبح ويمسي عارياً من أي غطاء يقيه تلك الأتربة والغبار. وعليه فقد تذكرت قصيدة شاعرنا الأستاذ الشاعر شمس الدين حسن الخليفة قصيدة يوضح فيها حال ذلك الرغيف المخيف بعد أن يكون قد حمل على وجهه كمية من الغبار والأتربة. والقصيدة تتحسر على حال رغيفنا «الكشة» فيقول: يا حليل رغيفنا الكشا زي «قطعة» أوَّل فشه ليه صحَّتو بتتدهور؟ في «كوما» يمكن خشّ؟ شهرين تلاته ويصبح في وزنو زي القشّه وفوق العليهو مغبر بالتمباك قعد يترشه جوعنا ارتفع «أمبيرو» والحالة أصلاً هشة الزول مضمّر خصرو بالببسي ما «بتدشا» القصيدة طويلة ويمكن استعراضها في وقت آخر.