العلاقات الدولية في ظل التقدم المعلوماتي الهائل من المفترض أن تكون مدخلاً للسلام العالمي وبناء الثقة بين الشعوب وتنمية التسامح في إطار القرية العالمية، ذلك أن الحياة صارت واضحة، وكل شيء أيضاً أصبح معلوماً ومعروفاً لدى الدوائر العالمية على مستوى العمق الداخلي والمحيط الإقليمي والبعد الدولي، وصارت الرغبات الدولية ليست من الخصوصية بقدر أن تحمي سرية الأهداف، والمؤسف أن الاتفاقات الدولية التي تقام اليوم بين الكيانات والأقاليم والدول هي من أجل خلق فرص جديدة للدولة المعنية أو إحدى طرفي الاتفاق، وفي ذلك قد تتجاوز الدولة مبادئ لها أو خططًا معلومة أو حتى أن تكون مخرجات هذا الاتفاق الجديد على حساب دولة صديقة أو مصالح قديمة لأن هذه المصالح الجديدة هي الأهم والأقوى والمفيدة، وعادة ما تتم مثل هذه الاتفاقات المفاجئة لظروف تحولات سياسية طارئة غير محسوبة، ويأتي هذا الاتفاق ولو لتوفير زمن يتيح الفرصة لإعادة التخطيط المناسب للأوضاع الراهنة في الدولة من أطراف الاتفاق المعلن. نقلت أجهزة الإعلام الجماهيري والوسائط الإعلامية العالمية الاتفاق بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والجمهورية الإيرانية في الأيام القليلة السابقة، وكان أغرب اتفاق يتم في السنوات الأخيرة، خاصة أن الولاياتالمتحدة هي أحد طرفي هذا الاتفاق الغريب، الذي برز فجأة إلى الساحة الدولية ودون مقدمات أو حتى مؤشرات سابقة لهذا الاتفاق وهذا سر غرابته بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوإيران، إذ أن المتابع للعلاقة بين الدولتين منذ عهد الثورة الإيرانية حتى نهاية الدورة الثانية لحكم الدكتور أحمدي نجاد لإيران، ظلت هذه العلاقة طيلة هذه الفترة التي بلغت بضعة عقود متسمة بالعداء المتبادل وقوة الاتهامات من كل طرف للآخر، ولم تقف هذه العداءات في حد الاتهامات المتبادلة بل أخذت مجرى أكبر بدخول الحرب الاستخباراتية والعمل على إعداد قوة للحرب بالوكالة، وكان هذا واضحاً من خلال الحرب العراقيةالإيرانية، التي حصدت المسلمين في النصف الثاني من القرن العشرين، وحال ما حققت العرب أهدافها، عادت القوة الدولية إلى تحطيم أحد طرفي الحرب وهو دولة العراق، التي دعمت أثناء الحرب العراقيةالإيرانية من القوى الدولية، حتى بلغت قوتها مدى يفوق حد التصور كدولة في العالم الثالث، وأصبحت القوة الرابعة في الإقليم، وربما الأولى إذا وضعت اعتبارات إدارتها للحرب، والخبرة المكتسبة من معركة عمرها ثمانية سنوات. كان هذا التقدم الذي اكتسبه العراق من خلال المعارك التي استمرت لثماني سنوات، بالضرورة أن يشكل خطرًا آخر بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية في المنطقة ومصالحها القائمة عبر أذرعها كدولة إسرائيل التي تعد الولاياتالمتحدة نفسها واحدة من إقطاعيات إسرائيل أو ولاياتها، لأن إسرائيل اليوم هي مركز الديانة اليهودية في العالم، وكذلك مركز الصهيونية، التي غيرت وجهة القوى الدولية العظمى، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بأن أصبح الإسلام هو العدو الرئيسي بالنسبة لهذه القوى، مع أنه لم يوجد دين بالمعنى المعروف في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ذلك أن أثر القوة المادية عمل على حساب وحدة الإله وصار الإشراك باللَّه الواحد هو نفسه دين يُعبد ويقدَّس ويقام، وليس أكثر تعبيراً من الاتجاه لبيع وشراء الكنائس، بدلاً من دورها الديني فقد صار لها دور أهم في ظل القوة المادية الطاغية والتي حسمت البُعد الروحي لصالحها، وفي ظل هذه الاعتقادات الجديدة للقوى الغربية يصعب معها الحوار الديني بين الإسلام والغرب، فالإسلام السني لا يزال يحمل أصالة فكرته بتفاصيلها أن القرآن الكريم موضوعه الإنسان في كل صوره وأشكاله وأديانه ومعتقداته في أي مكان وعبر الزمان، بينما القوى الغربية أصبح دينها المادة، وبمعنى أدق فقد أصبح الدين المكنة والإله منتوج هذه المكنة في كل جوانب الحياة. إذا كانت غرابة الاتفاق الإيراني الأمريكي الذي أعلن عنه في الأسبوع الماضي، حيث أن لا العقيدة ولا الثقافة ولا الاتجاه السياسي هناك ما يجمع بين إيرانوالولاياتالمتحدةالأمريكية، بل كان المعروف في العلاقة بين الدولتين والنزاع بينهما حتى رشحت هذه العلاقة السيئة، ربما قادت إلى الحرب العالمية الثالثة، فبينما أعلنت الولاياتالمتحدةالأمريكية أكثر من مرة نيتها توجيه ضربة خاطفة لإيران لشل قدرتها النووية التي أكدت الولاياتالمتحدة امتلاك إيران لهذه القوة النووية، كانت إيران ترد بأنه حال توجيه الولاياتالمتحدة لهذه الضربة، فإنه لا بد من إزالة إسرائيل من الوجود، كانت هذه المعادلة استمرت عدة سنوات بين إيرانوالولاياتالمتحدةالأمريكية، وبينما الولاياتالمتحدة تفاضل في تهديداتها وفق الفرص المتاحة بين توجيه الضربة الخاطفة أو تفعيل العقوبات الاقتصادية من خلال نفوذ الولاياتالمتحدة في الشرق الأقصى الكبير، وتوظيف هذا الوجود الاقتصادي والقوى المادية ثم العمل على الدور الاستخباراتي على مستوى العمق الداخلي الإيراني، وقد جربت الولاياتالمتحدة معظم هذه الخيارات فيما عدا الضربة الخاطفة المرتقبة. كانت بالمقابل إيران متمسكة بإزالة إسرائيل عن الأرض الإسلامية الأمر الذي يعد مسك أمريكا من يدها (البتوجعها) وهكذا ظلت هذه المعادلة قائمة، وإيران كانت أكثر جدية، خاصة أن تجربة الحرب بين حزب اللَّه وإسرائيل قد كشفت نقاط ضعف عديدة للأخيرة، والمعروف أن في حسابات المعركة وتعادل القوى والمعايير العسكرية فإن حزب اللَّه قد انتصر على إسرائيل، فالروح المعنوية التي اتصف بها مقاتلو حزب اللَّه، كانت معياراً حقيقياً في أتون تلك الحرب، التي كانت على إثرها ارتبكت إسرائيل أقوى دولة في المنطقة، لا يخفى قد دخلتها الخلعة والهلع في البحث عن الأمان خاصة لدى المواطنين بينما قوة حزب اللَّه كانت تندد بإسرائيل، وهي جاهزة لخوض حرب كانت غير متكافئة، ولكنها حققت جانبًا مهمًا من خلال هذه المعركة التي كشفت ضعف القوة الإسرائيلية، وأن القوة المعروفة من خلال الدعاية الإعلامية ليست هي القوة الميدانية في واقع مهمتها، وإذا استمرت الحرب لكان أن أصبحت إسرائيل وحزب اللَّه هي أرض الميدان متكاملة ومتصلة، وهنا الوضع يقدم فرصًا ثمينة لضرب إسرائيل خاصة أن قوة حزب اللَّه عندما تكتشف هذه الفرص قد تقدم عددًا من الانتحاريين بالجملة، وهذه السمة، سمة الاستشهاد، هي غاية توصلت لها القوة الجهادية الطليعية في فلسطين وسرعان ما انتقلت إلى الدول الإسلامية المأزومة، العراق، مصر، سوريا، وأصبحت خيارًا أخيرًا تلجأ له الحركات الجهادية. وبالتالي هذا الشكل من الصراع هو في الأصل بين أمريكاوإيران، حيث إن الأولى لا تخفي حمايتها لإسرائيل في المنطقة، وقد جرت التصنيفات من قبل مراقبين كثر أن الولاياتالمتحدة هي جزء من إسرائيل وهذا يعود إلى مركز إسرائيل الديني بالنسبة للصهيونية واليهود في العالم، كما أشرنا مسبقاً، وكون يتفق هذا الوضع مع إيران مركز الشيعة والمتهمة بأنها وراء قوة حزب اللَّه في المنطقة يأتي بالغرابة والتعجب في اتفاق إيرانوالولاياتالمتحدةالأمريكية، ولكن حتماً يعود ذلك لعدة أسباب يجملها الكاتب من وجهة أمنية من جانب أمريكا، إلا أن الربيع العربي الذي حل في دول شمال إفريقيا كان هو على علاقة بالإسلام السني، وعندما حاولت الولاياتالمتحدة توظيف الثورة العربية اصطدمت بالواقع، حيث إن الاتفاقات مؤقتة وصار فهم عناصر الثورة الإسلامية في شمال إفريقيا متقدمًا على فهم الولاياتالمتحدة نفسها، مما جعل الولاياتالمتحدة تطبق أساليب الممارسة التحتية التي برزت نتائجها في ليبيا، ومصر، وسوريا. وقد استفادت الولاياتالمتحدة من تناقض الإسلام السني في مجمل عمليات الثورة، خاصة بعض الدول الإسلامية الذي بدأ في مصر مع الحكومة العسكرية على حساب حكومة الإسلاميين الشرعية كما هو شائع في الأوساط الإسلامية والإعلامية والسياسية، أما في سوريا فإن تلك الدول تدين موقفها الذي صار مع الإسلاميين والحركات الجهادية ضد الحكومة السورية المدعومة من الشيعة، وقد تباين موقف الإسلام في القضية السورية التي الآن هي مع الحكومة العسكرية في مصر تماماً، وهذا هو الاتجاه الأمريكي، برغم أن الولاياتالمتحدة بدأت دعم الثورة في سوريا على حساب الحكومة العسكرية، ولكن لم يعد الأمر كونه مراوغة لدعم الاتجاه الأمريكي، وعندما قامت ثورة الربيع العربي كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية على خلاف بائن مع إيران، وكانت الحملة الإعلامية على أشدها، إلا أن حزب اللَّه الذي بدا مدركاً لقدرات إسرائيل والولاياتالمتحدة من خبراته مع دولة إسرائيل لم يُخف شيئاً، فقد اتجه نحو سوريا لصالح حكومة الأسد وأعلن حربه على الحركات الجهادية التي تمثل الإسلام السني. وبينما تتفق حكومة الأسد وحكومة السيسي، كانت الحركات السنية تتباين مواقفها وفق الرؤية المتناقضة اتجاه مصر ضد موقف الإسلام السني، وفي سوريا مع اتجاه الحركات السنية، أما الولاياتالمتحدةالأمريكية التي نوت حسم الموقف السوري على غرار حسمها الموقف الليبي، فقد تفاجأت عندما أطلقت صاروخين من قواعدها بالقرب من إسبانيا تجاه سوريا، وفي وقت قياسي أن تفجر أحد الصاروخين وسقط الآخر على المياه، وكأن الرسالة من هذه العملية تقول هناك من يسيطر على الجو والبحر والأرض، فالزمن الوجيز لإسقاط الصاروخين أحدهما في المياه والآخر تم تفجيره في الجو هي رسالة حقيقية بأن هناك تقنية تتفوق على التقنية الأمريكية، وسرعان ما فطنت الولاياتالمتحدة لهذا الأمر، بعد أن اكتشفت الحقيقة تمسك الاتحاد السوفيتي بسوريا كموقع إستراتيجي في المياه الدافئة، والذي تطل عبره روسيا على العالم، فجرت سيناريوهات عديدة لتغطية الحدث وعدم كشف فشل العملية الأمريكية على سوريا، وبالطبع كانت نتيجة الفشل لصالح الحكومة السورية ولصالح إيران، وليس من مصلحة المملكة العربية السعودية بأي حال من الأحوال. وذهبت الولاياتالمتحدة أكثر من ذلك، عندما حاولت استغلال بعض الدول الإسلامية وتوظيفها كآلية في إخماد ثورات الربيع العربي، كيد طولى تبطش نيابة عنها وبها، باعتبار أن المملكة العربية هي الأنسب في تنفيذ المخطط الأمريكي، كان ذلك في اجتماع مجلس الأمن الأخير، الذي استوعبت فيه هذه الدول الأوضاع بدرجة عالية جداً واستيعاب هادئ وسليم لإبعاد الموقف الأمريكي، الذي جعل من لكل الدول كرباجًا لجلد الإسلام السني، أمام التقادم الشيعي والقوة العربية الطليعية المتمثلة في حكومة الأسد، ولم تكتف بالعرض الذي قدمته لها الولاياتالمتحدةالأمريكية، بل رفضت إغراءات الولاياتالمتحدة، وبذلك عبرت المملكة العربية بأقوى أساليب الرفض عندما امتنع مندوبها من تقديم خطاب المملكة وكذلك رفضت قبول مجلس الأمن الذي قدم كطعمة لا تخلو من التقرب مكراً ودهاءً، وكانت بهذا التعبير الرافض أن قدمت المملكة العربية درساً في الحق لا يمكن أن يكون إلا في الإسلام، وأثبتت أنها مسؤولة أمام المسلمين في الأرض. وأن الإسلام السني هو الذي سيكون في وجه الطغاة. لكل ذلك اتجهت الولاياتالمتحدة إلى إيران، وأعلنت عن اتفاقها معها، وإيران التي إلى وقت قريب هي المرشحة الأولى لما دار في الربيع العربي، كما حدث في ليبيا ومصر وسوريا، والذي شهده العالم الإسلامي من قتل وسحل وتشريد، بل صنفت أحد أضلاع مثلث الشر، لم تكن بمأمن من الغدر، فهي دولة مسلمة ذات مبادرة في بناء القوة الإسلامية، ولا يشك أحد في كونها واحدة من قيادات العالم الإسلامي، والخلاف والاختلاف بين الشيعة والسنة ليس هو في مستوى الثورة الفرنسية التي أنهت الجانب الديني بالنسبة للإنسان الغربي، وجعلت منه عبداً للمادة، حيث إن الإسلام نفسه تضرر من غياب الدين في العالم الغربي، وصار الخطاب الإنساني متناقضًا وصار الجدل بين الديانات الإسلامية هو خطاب بين الوحي والفكر الإنساني المجرد، فالاتفاق الأمريكي الإيراني هو نصب للمملكة العربية السعودية وإيران، فالخطة الغربية الرامية إلى ذبح دول شبه الجزيرة العربية وإعادة توزيعها إلى ثلاث دول، دولة سنية، وشيعية، وعلمانية وذلك لتمكين الولاياتالمتحدة في اختلافها مع السنة، تبقى معها الدولة الشيعية والعلمانية، وفي حالة اختلافها مع الدولة الشيعية فتقف معها الدولة السنية والعلمانية أيضاً، أما هي فتدير أمر الإسلام من مركزه بهذه الدول الثلاث وتعود إلى إيران عن طريق آخر نترك الحديث عنه إلى وقته، بمعنى إيران نفسها ليست في مأمن من كيد وغدر القوى الغربية، ولكن عزاءنا في أن إيران أكثر من تعرف أساليب القوى الغربية، ولم يكن الاتفاق إلا حيلة ذكية تدخل عبرها الولاياتالمتحدة لتفصم قلب الإسلام وتحشه من جذوره. } زميل الأكاديمية العليا للدراسات الإستراتيجية والأمنية