«هو اللي بيحاسب الحرامية» هكذا هتفت مجموعة من الشعب المصري في مطار القاهرة وهم يستقبلون محمد البرادعي المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية تأييداً لترشيحه للرئاسة المصرية قبل عدة سنوات قبل حدوث التطورات الكبيرة في مصر، ولعلَّ اختيار العبارة يعبِّر عن هواجس وهموم المصريين الذين يرون أن ما يُعرف بالقطط السمان لا بد من اصطيادهم وتلجيمهم على الأقل، وهو همّ تشترك فيه تقريباً كل الشعوب العربية بشيء من التفاوت، فهذه الشعوب ترى أن ما تعترف به السلطات الرسمية ومن يتم إيقافهم من متجاوزي المال العام أو «اللهّاطين» وفق الأدبيات الشعبية في مصر لا يمثل إلا رأس جبل الجليد فقط، فهذه الشعوب بما تعانيه من فقر ومعاناة في العيش وصعوبات في العلاج والتعليم والسكن ترى بالمقابل أن المئات من مراكز القوى أو الأثرياء الجدد الذين حلوا مكان الرأسمالية التقليدية التي كدَّت في تكوين ثرواتها بالحلال قد تطاولوا في البنيان وكنزوا الثروات المليارية وفتحوا حسابات سرية خارج أسوار أوطانهم، ومع ذلك فهم خارج إطار المساءلة ناهيك من التوقيف والمحاسبة. ففي كل صباح المئات من المرضى بعد معاناة وصراع مرير في العالم العربي بسبب أمراض الدرن والبلهارسيا والملاريا وسوء التغذية، إنهم يكابدون في الحصول على ماء نظيف وفرص للعمل وسكن مناسب وعلاج مجاني فاعل ومع ذلك فإن المئات يدخلون البرلمان باسم معاناتهم والمئات من السلطويين يدلفون إلى الحكم باسمهم بينما تصادَر حريتهم التي منحهم إياها الدين قبل الدساتير ويُزج بهم في غياهب السجون حبساً وتنكيلاً باسم حماية النظام ودرء الفتن وربما الحفاظ على الدين في بعض الأحيان. وبما أن بلادنا وفق التحليل المنطقي وتقارير المراجع العام لا تخلو بالطبع من «الهبّارين» ومستغلي النفوذ وإهدار المال العام فإننا نأمل في عهد الحكومة الجديدة أن تشن حملة جادة للتضييق على الفساد والمفسدين وتفعيل القوانين المالية وعلى رأسها أورنيك «15» الذي أطاحت به العديد من الوحدات الحكومية وحل مكانه العديد من الإيصالات تحت بنود جبائية مختلفة، وفي وقت سابق قال مسؤول في الضرائب إن ما يتم تحصيله من جبايات ورسوم خارج مظلة الديوان ووزارة المالية يفوق بكثير ما يتم تحصيله بواسطة ديوان الضرائب.. إننا نحسب أن الاعتراف بالأخطاء ومحاسبة المخطئين والفاسدين مهما كانت مناصبهم السلطوية والسياسية يعمل على تكريس الثقة الجماهيرية في نظام الحكم وفي ذات الوقت يقطع الطريق أمام الفساد وأن الفقه المطلوب هو فقه الحكم الرشيد لا فقه الموزانات السياسية ولا فقه المعاذير الذي يرى أن التغطية على التجاوزات تقدح في النظام ومصداقيته، وهي جرثومة ليس معنياً بها السودان فقط على مر العهود وإنما جل الأنظمة العربية وهو ما يضع شفافية الحكم والعدالة الاجتماعية والقانونية محل شك دائم في تلك الأنظمة، ولهذا فإن الشعوب العربية ظلت تحلم دائماً بالقضاء على الفساد ومحاسبة المفسدين، بيد أن هذه الدعوة في ظل بعض الأنظمة يصعب الجهر بها وتكلف المنادين بها فقدان حرياتهم إن لم يكن حياتهم، فمعظم تلك الأنظمة تصر على شفافية مسارها وتدمغ المنادين بالتصحيح بالعمالة والخيانة وخدمة الأجندة الأجنبية، بل الكثير من هذه الأنظمة لا تعلن عن تقارير المراجعة المالية كما نفعل نحن في السودان وتضرب سياجًا حديدياً على أخبار التجاوزات وإن صغر حجمها. أخيراً نقول: لا بد من حدوث ثورة حقيقية في الإصلاح المؤسسي على كل الأصعدة، ولهذا عندما تتحقق تلك الأشراط والعلامات يمكن وقتها أن نقول «هم اللي بيحاسبوا الحرامية»، كما قال المصريون للبرادعي.