في هذه الحلقة من حوارنا مع بروفيسور الحبر يوسف نور الدائم المراقب العام الأسبق للإخوان المسلمين ورئيس لجنة التربية والتعليم والبحث العلمي بالبرلمان.. فيها نتناول مسائل شتى عن البرلمان وممارساته التي يخطِّئها البعض ويصوِّبها البعض الآخر، وليس ببعيد الجدل الذي ثار مؤخراً بالبرلمان واحتجاجات النواب وعلى رأسهم سامية هباني «من إصلاحيي المؤتمر الوطني» وعواطف الجعلي.. فهل انتقلت معركة الإصلاح من المؤتمر الوطني إلى قبة البرلمان؟ وهل من رابط بين هذا وذاك؟.. ولماذا يتفق المؤتمر الوطني مع الأحزاب الأخرى ويختلف مع بني جلدته من الإصلاحيين؟ أليس الأقربون أولى بالمعروف والتقارب أم هي كواليس السياسة وطرقها المتشعِّبة التي تُفضي إلى لا شيء حتى لو فقدت من تربطهم برابطة الأخوة الإسلامية واستظل تحت ظلها آخرون.. قضية أبيي هل هي وبال بسبب قرار سياسي طائش وكان يمكن أن تحل بحكمة.. وهل صحيح أن السودانيين مصابون بأمراض فكرية ونفسية مزمنة قد تصل إلى حد الحسد وهي السبب في الخلافات والانشقاقات داخل أحزابنا بما فيها المؤتمر الوطني؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن علاج هذه الأمراض حالياً والوقاية منها مستقبلاً؟.. كل ذلك وغيره في الجزء الثاني والأخير من حوارنا مع البروفيسور الحبر يوسف فإلى الحوار: الانقسامات داخل أحزابنا استفحلت.. ما تبريرك؟ نحن لا نستطيع أن نسيطر على الانقسام داخل أحزابنا، لأن داء الانشقاقات أصبح داءً عضالاً، واستفحل وانتشر في جميع أحزابنا السودانية، ولكننا نتمنى أن يثوب الناس إلى رشدهم ويجتمعوا على كلمة سواء، فنحن رغم اختلاف أحزابنا داخلياً و«خارجياً»، بمعنى انقسام الحزب واختلافه مع الأحزاب الأخرى، إلا أننا ما زلنا نؤمل في الأفضل وندعو إلى تيار جامع للإخوان المسلمين والإسلاميين والوطنيين. وكيف يتحقق ذلك في ظل الظروف الصعبة الراهنة داخلياً و خارجياً؟ لتحقيق ذلك وجعله واقعاً معيشاً رفعنا شعار الوفاق الوطني بين الجميع وذلك بأن نتفق على الحد الأدنى الذي يخدم أحزابنا ووطننا وديننا، فلا يمكن أن نظل في تفرُّق مستمر؛ لأن التفرق يُفضي إلى الفشل والضعف، فإذا كنت مختلفاً مع حزب المؤتمر الوطني «الحاكم» في بعض الأشياء فلا يمكن أن أختلف في الكليات، وبالتالي يمكن أن أعاديه ولكن أحاول أن أصل معه إلى حلول مشتركة. وما الذي يمنع حدوث ذلك والناس أصلاً تجمعهم روابط الأخوة الإسلامية قبل الروابط التنظيمية أو الحزبية؟ هناك الآلاف من أعداء الوطن والدين وقوى الاستكبار العالمي يريدون تمزيق وتدمير الإسلام أياً كانت مسمياته التنظيمية سواء مؤتمر وطني أو إخوان مسلمين أو حتى حزب أمة واتحادي ديمقراطي أو مؤتمر شعبي وحتى حزب الإصلاحيين الجديد «النهضة»، هؤلاء الأعداء يريدون أن يسمعوا أخباراً سيئة عن الإسلام، فكلما أطفأنا ناراً للفتنة أشعلوها. ما هو المطلوب بالضبط حتى يتفادى الناس ذلك؟ المطلوب تحكيم العقل، والتعامل بحكمة، فنحن نحتاج فكرياً لشيء يوحدنا وناصح يجمعنا تحت مظلة واحدة وأن نعير هذا الناصح المخلص أسماعنا وأفئدتنا ونغلق الأبواب في وجه المفتنين. القضايا العالقة بين شمال وجنوب السودان تكاد تُحل، ومؤخراً تمت لقاءات ثنائية بين الرئيس البشير وسلفا في إطار ذلك التعاون الثنائي.. ما رأيك؟ أكبر خطأ في قضية جنوب السودان هو إجازة مبدأ تقرير المصير للجنوبيين وحدهم حيث استفتُي الجنوبيون وحدهم على خيار الوحدة أو الانفصال، وكان يجب ان يُستفتى الشماليون أيضاً لأننا منذ قيام دولة السودان «إخوان»، وقد قلنا رأينا آنذاك أن تقرير المصير والاستفتاء مسألة قومية مشتركة بين الشمال والجنوب والشرق والغرب والوسط، ويجب أن يُشرَك فيها جميع السودانيين وليس الجنوبيين وحدهم، ولكن أحداً لم يستمع إلينا، والآن بعد فوات الأوان وانفصال الجنوب وبعد إبرام اتفاقية نيفاشا في عام «2005م» بعدها بأعوام أدركوا خطأهم. ولكن هل يمكن بعد كل هذه النتائج التي ترتبت استدراك هذا الخطأ؟ بالتأكيد لا يمكن ذلك، فقد حدث ما حدث وترتب على ذلك قيام دولة بكيانها الخاص ورئيسها ووحداتها الإدارية والتنفيذية والتشريعية ولا يمكن التراجع الآن، فقد سبق السيف العذل، والمطلوب فقط الآن حسن الجوار وإنفاذ المسائل العالقة بين البلدين وعلاج ما يمكن علاجه جزئياً في إطار كل دولة. ما تقييمك للأوضاع بمنطقة أبيي بما في ذلك الاستفتاء الأحادي الذي تم مؤخراً؟ ما يحدث الآن في منطقة أبيي من توترات وما حدث من استفتاء أحادي هو ثمرة لمبدأ تقرير المصير وقانون المشورة الشعبية، وهذا جعل بعض أفراد الدينكا بالجنوب يتمادون في ذلك ويتجاوزون الحد المسموح به في حق تقرير المصير وينتهكون القانون والترتيبات الإدارية وبروتوكول أبيي وغيره ويعقدون استفتاءً أحادياً بمنطقة أبيي، فمبدأ تقرير المصير الذي مُنح للجنوبيين في «نيفاشا» فتح شهية البعض للاختراق القانوني الآن. الحدود التاريخية لترسيم المنطقة هل هي مرجعية كافية لحسم المشكلة؟ منطقة أبيي تابعة لشمال السودان منذ أمد طويل منذ ترسيم حدود عام 1956م، فهي تاريخياً وقانونياً أمرها محسوم وتابعة لنا وكذلك تاريخياً معروف أن أغلبيتها من قبيلة المسيرية، ولذلك لا يمكن تجاهلهم في استفتاء المنطقة وهم أصحاب حق أصيل، فيجب أن يكون الاستفتاء شاملاً لجميع القبائل والسكان بالمنطقة، والصيغة المناسبة لذلك هي الصيغة القانونية مع استصحاب الإدارة الأهلية، فهذا الأمر يضمن الحل السلمي مع الانضباط والالتزام به من كل الأطراف. أيها أفضل لمنطقة أبيي الحل السياسي أم القانوني أم الأهلي؟ أحياناً هناك بعض القرارات السياسية المتعجلة والمنفردة والمتجاهلة لمبدأ الشورى تقود هذه القرارات السياسية الطائشة إلى وبال ومصائب عظمى ببعض المناطق، وهذا ما حدث بأبيي الآن وسابقاً، فلو تركوا الأهالي و«الأجاويد» وشأنهم لحلوا الأمر وانتهى الجدل، فهم يختلفون ويتصالحون منذ قيام المنطقة، ولم تطفُ مشكلتُهم على السطح السياسي إلا بعد «2005م» بإبرام اتفاقية «نيفاشا» وإقحام مسألة أبيي فيها، فلو تُرك الأمر للواء بابو نمر ورفاقه من أبناء المسيرية لحلّوها تحت شجرة مع أبناء الدينكا نقوك كما كانوا يفعلون على مر العقود وينهون خلافاتهم بهدوء وأمن وسلام إلى أن أفسدت السياسة ما فعلته وتفعله الإدارة الأهلية، فذهبت جهودهم السابقة واللاحقة أدراج الرياح السياسية، فأتت تلك الرياح بمالا تشتهي السفن. بعض الأعضاء يتحدثون عن انفراد رئيس البرلمان برأيه في البرلمان والعضو عواطف الجعلي ذكرت أنه يقود البرلمانيين إلى حيث يريد هو.. ما قولك أنت؟ هذا غير صحيح، وفيه كثير من الخطأ والظلم والتجني على رئيس البرلمان السيد أحمد إبراهيم الطاهر وعلينا نحن النواب، وفيه مسح لشخصيات نواب البرلمان وإهانة لهم، فنحن لسنا قطيع ماشية يراح ويقضى به، ولسنا أغناماً تُقاد، نحن كبرلمانيين وممثلين للشعب السوداني أتينا من كل القطاعات والمجتمعات، ونحمل مسؤولية وأمانة في أعناقنا تجاه من نمثلهم، ولا نخشى في الحق لومة لائم إذا وجدنا خطأ في ممارسة قانونية أو تشريع، فنحن نمارس دورنا الرقابي والتشريعي كبرلمان ولا أحد يحجر علينا، وإذا انفعل بعض البرلمانيين تجاه موضوعات وقضايا معينة ولم نفعل فليس معناه أننا عديمو الإرادة أو نُقاد إلى حيث يريد رئيس المجلس الوطني، ولكننا وجدنا أن الأمر قابل للعلاج وخاضع للحوار والتداول. معركة سامية هباني التي انتهت بتقديم استقالتها بل ومطالبة رئيس البرلمان بفعل نفس الشيء هل تدل على انتقال معركة الإصلاحيين إلى داخل البرلمان؟ لا أظن أن ذلك يمكن أن يحدث وإن كان البعض يظن أنه سيفلح في نقل المعركة الإصلاحية من ردهات المؤتمر الوطني إلى قاعات البرلمان فهو مخطئ، فلا رابط بين الاثنين، فذاك تنظيم لفئة معينة تنضوي تحت لوائه وله لوائحه الداخلية ونظامه الأساسي وغير ذلك، وهذا، أي البرلمان، جهاز تشريعي رقابي يمثل كل الشعب السوداني على اختلاف فئاته ومناطقه وقطاعاته، وإذا كانت سامية هباني أو غيرها حاول ذلك فهو لن يفلح، لأن البرلمان أسمى من أن يتنزل إلى مهاترات فردية وقضايا جزئية بقوميته وشموله للكل. ما التصرف السليم الذي يجب أن يتخذه الجميع حفاظاً على كيان البرلمان حتى لا يتصدع كالمؤتمر الوطني؟ نؤمل من الناس أن يصلحوا ذات بينهم بالصيغة الوطنية ويجتمعوا على حل القضايا الوطنية الكلية، فما يحدث الآن من خلافات وطرح للبرامج اعتبره نوعًا من الكلام العاطفي، فالواقع السياسي الراهن يجبر الناس على الوحدة، وأن الناس إذا قالوا خيراً فإن البلد يسع الجميع، ونحن نحتاح إلى تغيير شامل وعام. بعد انفصال الإصلاحيين من حزب المؤتمر الوطني وتكوين تنظيم منفصل «النهضة» كيف تقرأ الخارطة؟ نرى أن الإصلاح الداخلي للحزب أفضل دوماً من الخروج النهائي إذا تواضع الجميع عليه ووصلوا إلى خطاب مشترك وحل وسط، فهذا أفضل من المزيد من التشرذم والتمزق داخل أحزابنا الإسلامية وغيرها. ترى ما هي مسببات ذلك الخلل؟ هل هي في تركيبة الأحزاب أم الأشخاص؟ السودانيون لديهم أمراض مزمنة فكرية ونفسية ممثلة في الرغبة في التغيير بدون مبرر إلا الحسد والطمع فيما هو بأيدي الآخرين ولو كان الآخرون لهم حق شرعي فيما اكتسبته أيديهم، وهذا هو بيت الداء الذي يحتاج إلى علاج جذري شامل ودقيق يجيد التشخيص للحالة والتوصيف للعلاج المناسب. وما هي بنظرك الوصفة الناجعة لهذه الأمراض التي تتحدث عنها علاجاً ووقاية؟ يجب أن نربي أنفسنا تربية إسلامية وأخلاقية وإنسانية حميدة وقويمة وحتى تؤتي هذه التربية ثمارها فيجب ألّا نيأس من نجاح عملية الإصلاح، ورغم أن حالنا في مجاراة الراهن من معركة ومعترك حزبي دائم تنطبق عليه الحكمة القائلة «كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سناناً»، ولهذا يجب أن يكون مشروعنا التربوي دائمًا ومواكبًا للفئات المخالفة دوماً، بحيث نربي أنفسنا على تقبل الآخر ونربى من حولنا على تقبل النقاش والحوار وعدم التمادي في العدوان والخروج. ما الذي كان يجب أن يُفعل في ظل حماس الإصلاحيين الجامح وتصلب اللوائح الداخلية الجامد؟ صحيح ولهذا كان على المؤتمر الوطني أن يستوعب خلافاتهم ويستمع لصوتهم من جانبين، الجانب الأول هو أن المسلم بطبعه حليم وصبور ومتسامح مع غيره، والجانب الثاني هو الجانب الوطني، فإن البلاد تمر بمنعطف خطير إقليمياً وعالمياً وداخلياً، وعلى الجميع أن يتحدوا من أجل الوطن، وقد قال صلى الله عليه وسلم «لن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». المؤتمر الوطني «الحزب الحاكم» استوعب داخل حكومته الأحزاب الأخرى وتناغم معهم في مزيج موحد، أما كان الأقربون أولى بحيث يدرأ بنفس الحكمة ما حدث داخله مرتين من انشقاقات؟ استيعاب المؤتمر الوطني «الحزب الحاكم» للآخرين داخله وتكوين حكومة الوحدة الوطنية من كل الأحزاب على اختلافها معه وفي ذات الوقت اختلافه مع بعض أعضائه الأصليين بل وفصلهم، ليس دليلاً على تناقضه، لأن قبول الرأي الآخر داخل الحزب الواحد هو الحد الأدنى، والجانب الثاني أن الوحدة الوطنية مع الأحزاب الأخرى هي الحد الأعلى، لأن الوطن يعلو ولا يُعلى عليه، فالوطن مواجه بتحديات ضخمة ويجب ألّا نختلف بقدر الإمكان. عفواً ولكنك نفسك ذكرت في الجزء السابق من حوارنا أن الله خلق البشر متفاوتين.. فكيف يكونون متوافقين أو معصومين عن الخلاف؟ كما ذكرت التحديات الراهنة للبلاد ضخمة ويجب أن يبذل الجميع قصارى جهدهم من أجل سلامة الوطن والمواطن، وأنا متفائل من أجل المستقبل، والأمل معقود في تحقيق الإصلاح والتغيير الإيجابي. وكيف يتحقق ذلك في ظل ما ذكرناه من صعوبات وعقبات؟ يتحقق ذلك بالرجوع للذات والداخل بصدق وإخلاص وعزيمة قوية، وكذلك نرجع إلى الله عز وجل بتواضع وأدب، ونقدم طرحنا في هذا الإطار ونستشعر أننا لسنا أحسن من غيرنا، والمقياس في هذا الآية الكريمة القائلة «ومن أحسن ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين». وكذلك «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» ولم يقل إن الأكرم والأحسن من هو أكثر مالاً وسلطة وجاهاً فالمعيار هو التقوى والعمل الصالح والإسلام، فيجب أن نؤصل أنفسنا وبلدنا في ظل هذا الفهم لتداول الأمور في إطار الإسلام السلمي والشورى.