حبيبنا وصديقنا الأستاذ حسب الرسول ود العمدة «بابا حسبو» ظريف ظرفاء بحري مدير مدارس القلم يطل علينا هذا اليوم من المدينةالمنورة بهذا المقال الرفيع الرشيق العبارة، الطريف كعادته في كتابة مثل هذه المقالات، ونود أن نشرك القراء معنا في الاحتفاء به. يقول الأستاذ: «عيّنا في بند العطالة في مقبل أيامنا، فقررنا نحن معشر العطالى أن نثور على الخدمة المدنية لا ولاء للسادة القضاة.. ولن نركع لغير الله تلاحقت الكتوف انتهى عهد السادة. اتفقنا أن نتمسكن حتى نتمكن... المسكين سكين. على الأقل حتى نثبت في الخدمة المدنية، بدلاً عن بند الشريف حسين الهندي رحمة الله عليه، فأسماؤنا مازالت مكتوبة بقلم الرصاص أصبحنا نراقبهم من بعد وعن قرب لنغرز أسناننا ونعض اليد التي مدت إلينا. راقبنا من كنا نعمل معهم فتداعت الذكريات من بعد سنين مضت. كانوا يحبون بعضهم فكأنهم أسرة واحدة. لو وجد كاتب المحكمة رزقاً حلالاً طيباً لا تطيب له نفساً إلا أن يتذوقه القاضي، كانت زوجة الكاتب تمشط زوجة القاضي، وكانت زوجة السائق تعوس لها الكسرة وزوجة الخفير ترمي لها العصيدة أحياناً. طائعة مختارة لا مجبرة ولا مكرهة، لا خوفاً ولا طمعاً بل كان حباً. كان الواحد منهم إذا دق جرس التلفون وكان المتحدث رئيسه المباشر يقف متأدباً حتى تنتهى المحادثة، لا يضع سماعة التلفون حتى يضعها الطرف الآخر. يروى أن أحدهم كان يتحدث مع قاضي القضاة فأخذ يخفض من صوته ويبعد سماعة التلفون عن فيه فقال محدثه، ارفع صوتك شوية ما سامع.. رد في أدب، مولانا أنا ماكل بصل. راقبناهم أربعين يوماً كنا إذا غبنا افتقدونا وإذا مرضنا عادونا وإذا احتجنا أعانونا كانوا مؤمنين حقاً... تذللوا لنا فأحببناهم. ونحن في محكمة كوستي جاء قاضي مديرية مدني من بعد أداء واجب عزاء في الكوة قاصدًا مقر عمله في مدني وطلب عربة لتحمله إلى مدني، أمر قاضي المحكمة «عزيز» السواق أن يوصل مولانا إلى مدني وفات عليه أن يخبره بأن هذا الرجل المتواضع قاضي قضاة المديرية التي يتبع لها. ركب قاضي المديرية العربة وجلس بجوار السائق وكان يرتدي جلابية سمنية واضعاً عمته على كتفه وعلى رأسه طاقية وفي يده كتاب يتصفحه فالرجل مولع بالقراءة، بعد أن عبر عزيز كبري كوستي مباشرةً أخذ يشحن العربة بالركاب ويأخذ من النقود ويضع في الجيوب، ينزل راكب ويركب آخر حتى وصل سوق مدني، ونزل جميع الركاب التفت إلى الرجل، أه يا حاج على وين إن شاء الله.. فقال الرجل إلى حي العظمة، هكذا كان يطلق على ذلك الحي الذي كان يسكنه كبار موظفي الدولة. وصلت العربة إلى المنزل وعلى باب المنزل لافتة مكتوب عليها قاضي المديرية، طلب الرجل من «عزيز» السواق أن ينزل ويرتاح ويتناول الغداء. الرجل يلح على عزيز فإنه أصيل مضياف، استدرك عزيز وسأل الرجل، هل أنت ضيف أم صاحب الدار أجاب الرجل انا صاحب الدار... وقال عزيز في خوف وحياء طيب يا مولانا القروش دي نوردها أمانات؟ لا ما توردها أمانات لكن تاني ما تعمل كدا. جا ءني عزيز السواق والخوف في عينيه يردد مناحة: ووب عليا... ووب عليا عزيز جاتو رفدية الجلابية مكرفسة وسمنية.. الزول شنق الطاقية طلع قاضي المديرية ما بتنفع الجودية الليلة ما بتنفع الجودية عزيز جاتو رفدية وأصبحنا نترنم بها سرًا في جلساتنا الخاصة بعد مضي عشرات السنين وفي عصر يوم جمعة وأنا مستلقٍ على فراشي بعد عناء يوم طويل وبين الحقيقة والخيال سمعت مغنية تغني خلال مكبرات صوت تفتق الآذان الجلابية بيضاء مكوية.. فإذا بي أردد معها: غُنيتنا بقت علنية الجلابية مكرفسة وسمنية بقت بيضاء مكوية للقاضي ألف تحية عزيز جاتو رفدية غُنيتنا بقت علانية ياحليلة سرية سرية... سرية دى سكروتة سمنية