ما كان لقمة دول «الإيقاد» والتي عقدت في إثيوبيا خلال اليومين الماضيين الذهاب بعيداً عن دعم السلطة الشرعية في جنوب البلاد المتمثلة في رئاسة الرئيس سلفا كير وإدانة مشار وإلزامه بالعودة لطاولة المفاوضات. فلا يمكن لقمة «الإيقاد» أن تسبح عكس تفويضها وتعمل على تقويض سيادة الدول خاصة في منطقة مثل إفريقيا سيادة الدول فيها مهددة بالنزاعات القبلية والحروب العرقية. لكن الأهم في مسألة الشأن المتعلقة بدولة الجنوب برأيي، هو الدور المطلوب من الحكومة في الخرطوم، إلى جانب دورها الطبيعي في منظومة «الإيقاد». فمازلت أصر على أن الخرطوم ينبغي أن تلعب دوراً متقدماً في لملمة أطراف الصراع في الجنوب وإخماد نيران الحرب ودعم فرقاء الحركة الشعبية المنشقين من أجل الجلوس لحوار جاد بينهما يفضي إلى إعادة ترتيب الوضع في الجنوب بما يفتح الآفاق لاستيعاب كل القوى السياسية الجنوبية في منظومة الحكم. وأعتقد أن النزاع المرير الذي شهدته مناطق عدة في جنوب السودان ينبغي أن يكون مدخلاً جيداً للأطراف المعنية بالنظر فيه، سواء أكانت دولية أو إقليمية، بألا تنظر للأمر فقط في إطار حصر معالجته داخل الحركة الشعبية، فالتجربة السابقة أكدت أن الجنوبيين غير متفقين على زعامة الحركة الشعبية للجنوب.. صحيح الحركة الشعبية مثلت الجنوبيين وفرضت عبر اتفاقية السلام عام 2005م مشروعها وبرنامجها على الشارع الجنوبي، وقادت الجنوب للانفصال بكل ما صاحبه من تداعيات.. ولكن تلك مرحلة مضت، واليوم لا بد من النظر لمكونات الجنوب بأجمعها، فقد ثبت من خلال المخاشنات السابقة مع الدولة الأم وما حدث من خلافات عميقة بين قيادات الحركة أرجعت الجنوب لمربع التمرد بعد إعلانه دولة مستقلة، أنها العلامة الفارقة التي تؤكد عدم صلاحية مشروع الحركة الشعبية ليكون مشروع دولة يقود الجنوب في مرحلة تأسيس الدولة المستقلة، وهذا يعني أن أية وساطة لمعالجة الأوضاع وإعادة الاستقرار لن يكتب لها النجاح إن هي تجاهلت المكونات السياسية الكلية للجنوب. وتأتي هنا الفرصة لمقررات الحوار الجنوبي الجنوبي بوصفه عصفاً سياسياً ثميناً للواقع الجنوبي يستحق أن يدرج ضمن الموجهات للتفاوض بشأن مستقبل دولة الجنوب المستقرة. غير أن ما ذهبت اليه آلية «الإيقاد» من تأكيد لرئاسة سلفا كير ودعم شرعيته هو ما يجب علينا أن نعضده، فأي حديث عن تغييب للرئيس سلفا كير أو استبداله في الوقت الراهن سيعقد المشهد الجنوبي أكثر مما هو عليه الآن، بل قد تنفرط تداعياته وتؤثر على الدول المجاورة للجنوب بامتداد الصراعات لداخلها، خاصة أن الحدود مفتوحة ولا توجد موانع طبيعية تحد من حركة تدفق القوات واللاجئين. ويبقي الأهم هنا، ومع كامل احترامنا لجهود وزارة الخارجية والدبلوماسية السودانية، أن النزاع في دولة الجنوب تقاطعاته كثيرة ومختلفة ومعقدة ما يجعل منه ملفاً سياسياً بالدرجة الأولى، وحساساً للغاية، والتعامل معه في حاجة لخبراء لهم صلات عميقة ومعرفة راسخة ومتجذرة بالواقع الجنوبي حتي يتمكنوا من تحليله واتخاذ الموقف المناسب. وعليه فإنني أفضل أن يعين الرئيس مبعوثاً خاصاً للجنوب وتفويضه صلاحيات ليكون آلية تعينه على إدارة الملف بالتعاون مع وزارة الخارجية والرئاسة والجهات الأخرى ذات الصلة، ولا أعتقد أن المجتمع الدولي ودول الإقليم سترفض هذه الفكرة إذا أخذنا في الاعتبار أن وزارة الخارجية لها مشغوليات دبلوماسية واسعة قد لا تمكنها من التفرغ لملف دولة الجنوب بما يعين على إيجاد الوصفة المناسبة للحل. وليست لدينا مشكلة في القيادات القوية والخبيرة في الشأن الجنوبي التي تستطيع أن تضطلع بالمهمة بامتياز، وهناك الآن عدد كبير من الوزراء المتمرسين في العمل التنفيذي والسياسي الذين أمضوا سنوات طويلة ولهم خبرات عميقة بملف الجنوب، بما فيه من بترول وقضايا عالقة أخرى، يستطيعون أن يتولوا هذه المهمة ويعينوا على حلها.